الروائي المصري الدكتور علاء الأسواني صاحب رواية "عمارة يعقوبيان"، وأحد الوجوه العلمانية المعروفة على المستوى العربي، لم يجد بدا مؤخرا من نزع القناع الديموقراطي الذي كثيرا ما اختبأ وراءه، والمطالبة صراحة باستبعاد الناخبين الأميين من التصويت على مشروع الدستور المصري الجديد، مشيرا إلى أن قصر الانتخاب على من يعرف القراءة ليس عنصرية، وإنما هو احترام للديمقراطية، متسائلا : كيف يناقش الدستور أميون؟ وبطبيعة الحال، فإن الجديد الوحيد في هذا الكلام هو أنه صدر عن رجل مشهور له حضور يومي عبر مقالات وتحليلات وإطلالات تلفزية. وإلا فإن هذا التفسير الغريب للديموقراطية قديم ومنتشر على امتداد خريطة الوطن العربي منذ عقود. فكثير من الذين يتسترون خلف الشعارات الكبيرة، كانوا "يتفهمون" وجود واستمرار الديكتاتوريات لسبب واحد ووحيد وهو إيمانهم بأن الديموقراطية الحقيقية لن تترك لهم ولو موطئ قدم في الساحة، لأنه لا وجود لهم أصلا في المجتمع. وكرد فعل على هذا الإدراك، ظلوا يتعاملون بتعال كبير على رجل الشارع، وعلى المواطن البسيط، ويرفضون الخضوع لحكمه، ويعتبرون أنفسهم فوق أدوات الديموقراطية وفوق الصناديق والانتخابات، ويعطون أنفسهم الحق في "التصحيح" و"التعديل"، لأن المواطن بالنسبة إليهم، تنحصر مهمته في البحث عن لقمة العيش، وليس من حقه لا التفكير ولا التعبير ولا إبداء الرأي.. هؤلاء، لاحظنا كيف أنهم "عارضوا" ديكتاتوريات متأصلة بطريقة كاريكاتورية، وقبلوا أن يكونوا جزء من الديكور في مسرحية "الزعيم"، ومنهم من لازال حبيس شعارات وأفكار أكل عليها الدهر وشرب، بل هي سبب نكساتنا المتواصلة... ومنهم من ذهب أبعد من ذلك عندما برر الممارسات القمعية لبعض الأنظمة، فقط لقناعته بأن الديموقراطية الحقيقية لن تقوده إلى الواجهة، وإنما ستصب في صالح أعدائه التقليديين. ولهذا بدل أن نكون أمام مشهد سياسي طبيعي خاصة في الدول العربية التي عرفت انتفاضات، وأطاحت شعوبها بجلاديها، وجدنا أنفسنا أمام حالات غريبة، تستحق أن توصف بأنها "ظاهرة عامة" بما أن أعراضها ممتدة -على الأقل- من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر. وأهم تجليات هذه الحالات الغريبة، أن حفنة من الأشخاص الذين يعانون من "تورم الشخصية" و"تضخم الأنا"، فرضوا وصايتهم على أرادة الشعوب، وأعطوا أنفسهم حق رسم حدود الحلال والحرام في العملية الديموقراطية، بوهم أنهم "نخبة" وأنهم يتميزون ببعد نظر يمكنهم من رؤية ما لا يرى غيرهم، لكن على طريقة فرعون "لا أريكم إلا ما أرى".. وبطبيعة الحال، كان ضروريا إيجاد "تركيبة منطقية" و"نسق عقلاني" لتبرير نظرية "الوصاية" على الشعب، فظهرت مقولات سرعان ما تقاذفها "الديموقراطيون" في الشرق والغرب من قبيل أن الشعب العربي لا يستحق الديموقراطية لأنه لم يتعلمها ولم يتدرب عليها، ولذلك لابد من أن تمسك "النخب المعلومة" بزمام الأمور في هذه اللحظة المفصلية، إلى أن يتعلم الشعب على يدها ويتخرج من مدرستها، ويعرف كيف يصوت ولمن. بل رأينا كيف أن "نخبا" تجاوزت "نظرية حرمان الأميين من حق التصويت" التي أعلنها الدكتور الأسواني، فعملت جاهدة من أجل تسليم، الدولة للأجهزة الأمنية والعسكرية لتدبير الشأن العام في مرحلة انتقالية تبدو بلا أفق، وكل ذلك حتى لا يعبر الشعب عن اختياراته بكل حرية. ورأينا كيف أن آخرين طالبوا بالتدخل الأجنبي، ليس لحماية "بيضة الديموقراطية" ولكن من أجل السطو على صناديق الاقتراع. لقد كشفت هذه المعطيات العزلة الحقيقية التي تعيشها فئات تضفي على نفسها وصف "النخبة"، والحال أنها "نكبة" وسبب كل "نكسة". فعلى فرض أن الشعوب لم تعتد على الديموقراطية، وأنها في حاجة إلى تدريب وتعليم، وإلى من يأخذ بيدها حتى تجد طريقها الصحيح نحو الممارسة السياسية السليمة، كيف تتعلم هذه الشعوب إذا لم تمارس فتخطئ ثم تتعلم من أخطائها؟ ومن أعطى الحق لحفنة معزولة كي تُقوم اختيارات الشعوب، وتمارس كل هذه الوصاية والأبوية عليها؟ ولماذا انتفض الناس في تونس ومصر وليبيا وسوريا إذا كانت المحصلة هي أن يخرج كاتب أو "مفكر" ليقول :حسنا لقد أسقطتم الطاغية..والآن عودوا إلى بيوتكم راشدين سالمين ولا تشغلوا أنفسكم بالتفكير أو المشاركة السياسية، لأن تلك وظيفة "الحكماء" وحدهم وكأننا في جمهورية أفلاطون الوهمية. في كل بقاع العالم، تعلمت الشعوب من أخطائها، ولنستقرئ تاريخ أية دولة ديموقراطية في عالم اليوم، ففي كل تجربة من تلك التجارب استفاد اللاحقون من زلات السابقين، فبريطانيا على سبيل المثال التي تعتبر اليوم قلعة الديموقراطية، كان تاريخها حافلا بالقمع والديكتاتورية ولم تبدأ في تشذيب نظامها السياسي إلا في القرن 19، ونفس الشيء يقال عن فرنسا التي رغم مرور أكثر من قرنين على ثورتها مازال دستورها محط نقاش ودراسة، مع الفرق الواضح بين البدايات والنهايات. لكن في كل هذه التجارب، اكتفت النخب بمهمتها الأساسية وهي التفكير والتنوير والإرشاد، وإيجاد الحلول، وليس فرض الوصاية على الشعب وتحديد من له الحق في التعبير عن رأيه ومن هو في حكم الشيء أو المتاع، فأحرى توزيع "صكوك الديموقراطية" على الأطراف المشاركة في العملية السياسية، و"تكفير" المخالفين. ولهذا قد لا يعلم كثيرون مثلا أن هناك اليوم حزبا في فرنسا تأسس سنة 2001، يحمل اسم التحالف الملكي، وهو حزب يطالب بعودة الملكية إلى فرنسا، ويشارك في الانتخابات ويستفيد من الحق في استعمال وسائل الإعلام العمومية، رغم أن ما يدعو إليه يعتبر انقلابا على أسس الدولة. ومعنى هذا أن الديموقراطية تعني فتح الباب أمام الجميع، وترك الحكم للصندوق، لأن الديموقراطية في نهاية المطاف هي أغلبية في مواجهة أقلية ولو كان الفرق صوتا واحدا. بكل أسف، رفضت النخب العربية المزعومة والنرجسية، أن تترك الشعب يتعلم من أخطائه وتكتفي هي بدور الناصح الأمين، ولهذا فهي تصعد من خطابها كلما تجاوزتها الأحداث، واتضح للعالم مجددا أنه لا تأثير لها على الرأي العام، وأنها مستعدة -لو تطلبت مصالحها الضيقة- لإغراق السفينة بمن فيها حتى تثبت نظرياتها... في هذا السياق يمكن أن نتحدث مثلا عن العمل الحثيث الذي تقوم به هذه النخب لزرع بذور الشقاق والفتنة داخل مجتمعاتها إما على أساس طائفي أو عرقي، بعدما استعصى عليها فرض نفسها كبديل وحيد للديكتاتوريات المتهاوية، وكأن وظيفتها الأولى تتمثل في إشعال الحرائق بعدما تأكد لها أنه لا مكان لها في الحاضر والمستقبل. إن أكبر خطيئة ترتكبها هذه النخب تتمثل في استصغارها للشعوب واستخفافها بالمواطن، مع أن مخترعي الديموقراطية في الغرب ساووا بين العبقري إنشتاين والفلاح الأمي وماسح الأحذية، لأنهم يتعاملون مع الواقع، وليس مع جمهورية أفلاطون الوهمية. إن المهمة الأساسية للنخبة في أي زمان ومكان هي التفكير وإيجاد البدائل والحلول وطرح الأفكار والتصورات، وهو ما لا يتناسب مع دور الشرطي الذي تحاول النخبة عندنا أن تلعبه في حياة المجتمع، ويصل بها أحيانا إلى تفضيل الاستبداد الصريح على ديموقراطية تحبو. * صحفي مغربي [email protected] www.asdae.com أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]