كل يوم يزداد تعلقنا به رمزا عزيزا للشهيد .. وكأنها لم تكن 49 عاما , وكأنها لم تكن شهادة , وكأنها لم تكن ذكرى كانت..مرت وعبرت.حين كتبت عنه أول مرة من 6 سنوات تفتحت لى ألف زهرة وزهرة في سيرة هذا البطل الكبير المحصور داخل فؤاده ..سواء في حياته الشخصية أوالمهنية أوالإنسانية..كثيرون لم يتركوا للأجيال المقبلة حكاياتهم وآراؤهم ومبررات وجودهم وشتى أنواع تصرفاتهم لكن الشهيد ترك لنا الكثير من هذه الحكايات وتلك الأراء والتصرفات. لم نفقد قائدا عسكريا كبيرا(رئيس الأركان)على جبهة القتال المفتوح في تاريخنا الحديث لا قبلا ولا بعدا..فحق علينا للوطن وله وللتاريخ أن تكون ذكراه بيننا ليست كأي ذكرى ويكون يوم استشهاده هو يوم الشهيد في كل العصور..وحسنا فعل الجيش العظيم بأن جعل يوم استشهاده(9مارس)هو (يوم الشهيد)..اليوم الذى يحتفى به الوطن ويحتفى به الجيش بأسمى حقيقة من حقائق الحياة(الموت استشهادا) وفى أديباتنا الإسلامية والحضارية والتاريخية ما يجعل لهذا الوصف بريقا يخطف كل الأبصا..لن ننسى بالطبع البطل أحمد عبد العزيز(41عاما)الذى استشهد في فلسطين عام 1948 بل لعل بريقه كان حاضرا فى حياة سيد شهداء الجيوش العربية في العصر الحديث. في حياته وما يفسر مجرى تلك الحياة الكثير الذى ينبغى الإشارة إليه ..أبوه القائمقام (محمد رياض عبد الله)حاكمدار السودان وقائد بلوكات الطلبة بالكلية الحربية يذكره الجميع بالفضل والعلم والقيمة.. توفى عام 1932م والشهيد فى الإعدادي ومما يلزم ذكره هنا أن الأسرة كانت من أهل الثراء واليسر أبا عن جد .. أمة السيدة الفاضلة(عائشة الخولى) كريمة محمد بك الخولى أحد كبار أعيان مديرية طنطا كان الشهيد وأمه صديقين وحبيبين وكانت فراسة الأم تلح عليه أن يتبوأ مكانته الكبيرة فى الحياة مشبهة له بجدها سيد بك الخولى فى عظمته وكرامته ووقفت إلى جواره حين ترك كلية الطب هو فى السنة الثانية! ليلتحق بالكلية الحربية(1936م) وتقدم بأوراقه بعد غلق باب التقدم قائلة:أخبرهم أن أبوك هو القائمقام محمد رياض وانظر ماذا سيفعلون..وحدث كل ما توقعته..توفيت عام 1954وبكاها البطل بكاء شديدا.. خوته جميعهم أساتذة فى الجامعات المصرية محمود/ زاكية /سميحة /وداد/ أحمد..الشهيد لم يتزوج فقد عاش 50عاما فقط أهم هذه السنواتمن 30 - 50 كانوا فى أشد أوقات حاجة الوطن إلى مثله (1919-1969)هذا العام تمر مائة عام على مولده ومن توافقات القدر أنه ولد فى مخاض ثورة 1919م الثورة الوحيدة فى تاريخ مصر الحديث التى كان قيامها إيذانا بتشكيل الثلاثين المجيدة(1919-1949)..والجميع يعلم كيف كانت(الثلاثين الشديدة)التى بعدها..ثلاثين التيه والتوهان من حركة الضباط(1952)إلى كامب ديفيد (1979). سيد شهداء الجيوش العربية كان من حفظة القرآن الكريم(فى مسجد جده بسيبرباى/طنطا)وكان ككل العظماء متذوقًا للشعر شغوفا بالقراءة المفتوحة فى كل الموضوعات لم يتوقف يومًا عن الدراسة والبحث (التحق بكلية العلوم والتجارة)يقول عنه زملاؤه أنه كان(ذو ثقافة موسوعية وعسكرية نادرة)وله جملة شهير لا زال صداها يتردد الى اليوم(لا أصدق أن القادة يولدون إن الذي يولد قائدًا هو فلتة من الفلتات التي لا يقاس عليها كخالد بن الوليد مثلًا ولكن العسكريين يُصنَعون,يصنعهم العلم والتجربة والفرصة والثقة,إن ما نحتاج إليه هو بناء القادة وصنعهم) كانت رأسه مملؤة باليقين الصافى واستدعائه لنموذج خالد لافتا وبقوة لعمق الثقافة الإسلامية فى عقل وقلب الرجل وهو الذى درس فى إنجلترا وروسيا وقرأ وسمع عن كبار القادة فى التاريخ الشىء الكثير والكثير .كان ممكن يذكر اسم كلاوزفيتز الألماني أو جوكوف الروسى أو صن تزو الصينى . سيتخرج البطل عام 1941م وفى عام 1944 ينال شهادة الماجستير في العلوم العسكرية (ترتيبه الأول في التخرج) وما بين عامي 1945 – 1946 يتم دراسته كمعلم مدفعية مضادة للطائرات في بريطانيا بتقديرإمتياز سيشارك في الحرب العالمية الثانية وفي حرب فلسطين عام 1948 وحرب 1956,وسيتم إبعاده أثناء حرب 1967 من مركز الأعصاب الحساسة للقوات المسلحة بالقاهرة إلى عمان أثناء حرب 1967 ,, قرار إبعاده عن القاهرة أثناء حرب يونيه يبدو حتى هذه اللحظة مريبا , خاصة وأن الملك حسين هو الذى جاء بنفسه الى القاهرة واصطحبه الى عمان فى طائرته. وفي 11 يونيو وبعد أسبوع من الكارثة الكبرى..يستفيق الزعيم خالد الذكر على أن العسكرية المصرية العظيمة بها من الأفذاذ ما يفوق عامر وشمس بدران و(جنرالات الليالى)الذين سلمهم جيش مصر العظيم كى يتفرغ للزعامة فى إفريقيا وآسيا وبلاد ما وراء النهر ..فيختاره رئيسًا لأركان حرب القوات المسلحة المصرية. نعلم جميعا أنه كان فى زيارة لأقرب نقطة من العدو على الجبهة يوم استشهاده وكنت قد كتبت من قبل تعليقا على الضابط الذى طلب من (القائد)زياره جنوده فى الموقع الذى استشهد فيه بعدها اذ لم يذكر أحد حتى هذه اللحظة من هو هذا الضابط الشاب ؟ولا نعرف عنه شيئا وما سبب جٌرأته ومفاجأته لرئيس أركان الجيش بهذا الطلب في هذا التوقيت وفى هذا المكان؟ قال له الضابط الشاب سيادة الفريق هل تجىء لترى بقية جنودى فى حفر موقعنا؟ وقال له الشهيد :نعم وبكل وسيلة وسيلفتك النظر أنها قالها بالإنجليزية(by all means )مما يشير الى المفاجأة للشهيد في هذا الطلب وما يتعلق بالترتيبات الأمنية الضرورية لتحركاته ,وبالفعل توجه مع الضابط الشاب إلى أكثر المواقع تقدماً(بينه وبين العدو 250 م)الموقع المعروف برقم 6 ..وفجأة بدأ الضرب وبدأت النيران تغطى المنطقة كلها وهبط الجميع إلى حفر الجنود فى الموقع وكانت الحفرة التى نزل إليها ابو الأبطال تتسع بالكاد لشخصين أو ثلاثة وانفجرت قنبلة للعدو على حافة الموقع ثم كان ما كان.. وغاب الشهيد بعد أن أودع على صفحات حياته ألوف العلامات المضيئة ..الواقع الأليم جذب اليوتوبيا من عليائها أيها الأصدقاء!؟.. ولا أدرى هل كان مخططا في زيارة الشهيد الذهاب إلى هذا الموقع تحديدا ؟أم مفاجأة الضابط المجهول وفروسية عبد المنعم رياض هى التى أدت إلى الزيارة التى تبعد عن خط العدو 250 متر؟وهل كانت مصادفة أن يفتح العدو كل هذه النيران في هذا التوقيت أم أنه كان أمرا معتادا ومتوقعا ويحدث كل يوم ؟ الأستاذ هيكل هو الذى روى هذه الرواية في مقاله بالأهرام 10 مارس196..وهيكل معروف باهتمامه بالتفاصيل حتى انه أورد الحوار الذى بين(الضابط الشاب)كما وصفه والشهيد كما حدث بالعربية والإنجليزية , هيكل معروف بأنه صحفى استقصائي/تحقيقات من الدرجة الأولى..فكيف يذكر تفاصيل الحوار مع(الضابط الشاب)دون ذكر اسمه ورتبته وحتى اذا كان استشهد مع الشهيد فمن كرامة وجلال الموقف ان نذكره ونتذكره ونضعه في مكانه الجدير بشجاعته في طلبه هذا من رئيس الأركان وفى دمائه التى قدمها بين يدى طلبه غير الموفق ,, وفى كل الأحوال لم نعرف ان هناك تحقيقا تم في هذه الواقعة الخطيرة. لكننا نعرف أن الخبراء الروس كانوا قد غادروا مكان استشهاده قبلها مباشرة كما روى أحد مرافقيه و قبل أن تطلق المدفعية الإسرائيلية كل نيرانها على الموقع ونعرف أيضا ان الشهيد كان يقف بكل قوة ضد أي محاولة سياسية لعودة سيناءبالمفاوضات وبلا قتال والحقيقة أنه كانت هناك محاولات تجرى في هذه الاتجاه وكانت حرب الاستنزاف جزءً من هذه المفاوضات(تحركات روجرز وزير خارجية أمريكاومبادراته الشهيرة)وأبو الأبطال قال جملته الشهيرة تلك عن ضرورة المعركة وعن كرامة الرجل وشرف المرأة.. قالها للزعيم الخالد وأيضا للأستاذ هيكل وأكثر من مرة(لن نستطيع ان نحفظ شرف هذا البلد بغير معركة..وعندما أقول شرف البلد فلا أعني التجريد وإنما أعني شرف كل رجل وكل امرأة,,اذا خسرنا هذه الحرب لن نخسر وطننا فقط ..بل سنخسر وجودنا ذاته)سيبقى كل ذلك أحد الألغاز الكبرى فى تاريخ (أم الهزائم يونيو 1967)التى لا تزال تلد وتتكاثر كل يوم..لينخرط الجميع بعدها فى دروب المساومة تحوطهم الخسة والخيبة والأكاذيب والخيانات ولتصدق مقولة الرجل عن ضرورة الحرب للحفاظ على(الضمير الأخلاقى)للمجتمع لكن الرجل تم إبعاده دائمًا فى أخطر الأوقات..لتتم بعدها الحرب ولكن بتفاصيل مختلفة وأحداث مختلفة ونتائج مختلفة. ليس هناك كتاباعن سيرة الخمسين عاما التى عاشها الشهيد(الذى يساوى وزنه وطنا)بما يساوى قيمته الشخصية والأخلاقية والعسكرية والسياسية , واتمنى ان تراه المكتبات قريبا لكننا سنظل نشكر للشاعر(نزار قبانى)قصيدته الشهيرة(رسالة الى عبد المنعم رياض)..لكن فى نظري أن ما قاله احمد فؤاد نجم على لسان كل المصريين كان أقوى وأوقع ..قال فيها : يا حر قلب الناس/ على رنه الأجراس/ الشعب كله رياض/ ورياض مثل يا ناس/ يا نني عين البلد /يا ابن البلد يا شجيع /يا رنه الأجراس/ دقي وصحي الناس/ ملعون أبوك يا خوف/ بعد الشرف ما إنداس .