ربما لم يفهم كثيرون من الذين يهيمون على وجوههم بحثا عن لقمة العيش، مغزى الوعد الذي أطلقه الرئيس السيسي أثناء افتتاح محطة للصوب الزراعية في مدينة العاشر من رمضان شمال شرقي القاهرة، إذ وعدهم بأن يأكلوا "الأورجانيك" أسوة بالأغنياء. لم تفوت وكالة رويترز المناسبة دون الإشارة إلى هؤلاء الموعودين بأكل الأورجانيك، فذكرت أن "30% من سكان مصر البالغ عددهم 98 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر، وملايين آخرين يعيشون بالقرب منه، وقد زادت الإصلاحات القاسية التي يدعمها صندوق النقد الدولي من معاناتهم خلال العامين الماضيين". نحن الصحفيون نفهم المقصود بمثل الفقرة الاعتراضية السابقة في سياق أي تقرير خبري، فهي تنطق ضمنا بما لا نريد التصريح به. وعلى أي حال، من المعيب ألا ننظر بعين الاعتبار لكل مشروع منتج جديد، خصوصا المشروعات الزراعية التي أهملناها عقودا من الزمن رغم أننا بلد زراعي في الأصل. الاختلاف السياسي مع الرئيس السيسي لا يعني أن نبخسه حقه في إضافة مشروعات منتجة جديدة ستكون لها آثار إيجابية كثيرة شريطة الابتعاد عن حملة المباخر، وقطع شرايين الفساد.. فكلاهما يمتلك قدرة سحرية على الإساءة إلى سمعة الأعمال الجيدة. إذا أرادت القيادة السياسية كسب تعاطف وتقدير المصريين لمشروعاتها دون أن يرتد ذلك بالنكات والسخرية، عليها تغيير جلد إعلامها، والتخلي عن حملة مباخر كل العصور، فهؤلاء يسيئون إلى سمعة أي عمل أو مشروع، ومجرد ظهورهم للإعلان عنه وتمجيده يشكك الناس فيه وفي جدواه. المحطة التي افتتحها السيسي تضم 600 صوبة زراعية على مساحة 2500 فدان، وهي جزء من المرحلة الأولى لمشروع قومي يستهدف إنشاء 100 ألف فدان من الصوب الزراعية في عدة مناطق. ونص ما قاله "احنا كنا دايما يقولك في السوبر ماركت الكبير... دا أورجانيك، يعني الناس تاكل أورجانيك والمصريين مياكلوش أورجانيك ولا ايه؟.. يعني اللي معاه فلوس ياكل أورجانيك.. والمصريين الباقي مياكلوش؟.. لأ، إن شاء الله كله هيبقى كده، بس انتم اجروا معانا ونجري مع بعض عشان اللي تحقق النهاردة بكل تواضع أمر يسعد ويشرف". والأورجانيك زراعة عضوية خالية من الأسمدة الصناعية والمبيدات والعقاقير والسلالات المحورة وراثيا والإشعاعات، وإحلالها بمواد طبيعية غير كيميائية للحفاظ على خصوبة التربة وسلامتها وعلى التنوع البيولوجي، كما تمنع توالد الآفات والأمراض التي قد تلحق الضرر بالنشاط الزراعي. أي أن مفهوم الأورجانيك هو الابتعاد عن كل ما هو صناعي واللجوء إلى كل ما هو طبيعي. وينطبق الشيء نفسه على الطيور والماشية بحيث يأكل الإنسان لحوما خالية من الهرمونات والعقاقير الطبية. هل يمكن أن يصل المصريون يوما إلى تحقيق ذلك فيأكلون أورجانيك عن طريق الصوب الزراعية، في حين أن الإدارة الخاطئة للزراعة أفسدت أخصب ترب الأرض وأنظفها عبر التاريخ، فمصر حباها الله بأراض زراعية خصبة وزراعات خاصة بها، لكن البعض من الذين تولوا ملف الزراعة في العقود الخمسة الماضية أدخلوا إليها الزراعة المهندسة وراثيا، وخربوا في الأنواع المصرية من الحبوب والخضروات والفواكه بسلالات مستوردة غريبة عنا وسيئة. أبسط مثال على ذلك فاكهة الشتاء "اليوسفي" التي اشتهرت بها مصر منذ استوردت شجرتها في عصر محمد علي. ما نراه الآن فاكهة رديئة وسيئة ومنتفخة يقولون عنها "اليوسفي الصيني"! لا ننسى أننا فقدنا أفخر أنواع القطن عالميا، والذي كان حتى عقد الستينيات يطلق عليه "الذهب الأبيض". طبيعة الأرض المصرية هي "أورجانيك" وكذلك طبيعة ماشيتها وطيورها، وهو ما اشتهر باسم "البلدي" لكننا ضحينا بذلك، ليس بدءا من عصر وزير الزراعة يوسف والي، بل قبله بسنوات. ووصل بنا التدهور في الأعوام الأخيرة إلى الاستغناء عن المياه النظيفة في ري الأراضي الزراعية، وصرنا نروي الخضروات الطازجة والطماطم وغيرها مما نأكله على موائدنا في كل الوجبات، بمياه الصرف الصحي المعالجة. يمكنك أن ترى ذلك بوضوح في أراضي الصعيد. لك أن تتسائل بعد ذلك.. لماذا انتشرت الأمراض، ولماذا 75% ممن وقع عليهم الكشف ضمن حملة 100 مليون صحة يعانون من السمنة بدرجات متفاوتة حسب د.هالة زايد وزيرة الصحة والسكان، وأن 11 مليون مواطن بعافية، أي لديهم مشاكل صحية بأشكال متفاوتة، من إجمالي 17 مليونا في المرحلة الأولى وجزء من المرحلة الثانية من الحملة، حسب قول السيسي. [email protected]