الفكرة الميتة كما عرفنا بها(مالك بن نبى)هى الفكرة التى بلا فاعلية. لا زمانا ولا مكانا..وأتصور أن أغلب أصدقائنا الذين يتطاولون هذه الأيام على الأزهر الشريف وشيخه وعلماؤه هم من أصحاب الأفكار الميًته التى لاواقع لها ولا فاعليه. ولا الزمان زمانها ولا المكان مكانها. ولن اذهب بعيدا إذا قلت أن موضوعهم ليس الأزهر وليس التجديد..موضوعهم الحقيقي هو الإسلام نفسه , ولعل ما نراه الأن فى تونس شيء قريب من هذا. فلا المساواة ولا الميراث هو الموضوع ..الموضوع هو الدين نفسه. وتلك المحاولات التى لم تنقطع من الستينيات لتقليص وجوده وتأثيره في المجال العام , والمتابع لتاريخ عداء الدولة في تونس ما بعد الاستقلال للدين وأفكاره وقيمه سيصل إلى هذا المعنى بسهولة . ولذلك حديث أخر. لكن المتابع للكتاب الذين يتناولون الأزهر(الجامع والجامعة) هذه الأيام سيكتشف بسهوله سهيلة أن معرفتهم بالأزهر وتاريخه والتجديد وأفكاره, معرفة متواضعة للغاية..لم اقل معرفة(وضيعة)وان كان بعضهم يستحق هذا التوصيف..لكن الدهشة تهاجمك والذهول يباغتك والحيرة تفاجئك وتسأل :ألم يقرأ هؤلاء تاريخ الحركة الإصلاحية فى القرنين الماضيين داخل الأزهر وخارجه وهذا الرصيد الضخم الذى أنتجه رجال عظام حول (فكرة التجديد فى الحركة بالإسلام عبر الزمن )..هل توقف هؤلاء قليلا عند اسم مثل اسم (جمال الدين الافغانى)صاحب الشخصية الدينامية الهائلة والذى كان مفكرا وسياسيا من طراز رفيع ثاقب النظر إلى الباطن العميق لتاريخ الفكر والحياة فى العالم الاسلامى إلى جانب أفق واسع فى الرؤية للبشر وعاداتهم وهو الذى دفع(أرنست رينان)الذى طالما هاجم الإسلام وأفكاره إلى الإقرار بأن(الإسلام هو دين الإنسان وللإسلام جوانب جميلة من حيث هو دين، وأنا لم أدخل أبداً مسجداً دون أن تستولي عليّ عاطفة شديدة ..هل أعلنها؟ إنها شعور بالأسف لعدم كوني مسلماً..) وذلك في تعقيبه على رد الأفغاني عليه بعد محاضرته الشهيرة عام 1883م ,وحين يذكر الأفغاني يذكر صاحبه محمد عبده تلميذه الأكبر الذى وصف أستاذه بأنه (يتمتع بأقصى ما قدر للبشر غير الأنبياء من قوة الذهن وسعة العقل ونفاذ البصيرة هذا فضلا عن شخصيته ذاتها..) هل ننسى ونتجاوز أسماء بحجم خير الدين التونسى وشكيب أرسلان والطاهر بن عاشور والطهطاوي والكواكبي ورشيد رضا والبنا وأمين الخولى وزوجته الجليلة د.عائشة عبد الرحمن(بنت الشاطئ)والمراغي وشلتوت ومحمد ومحمود شاكر وطنطاوى جوهرى وأحمد أمين والعقاد والغزالى رحمهم الله..وكل هذه السلسلة الفريدة الذين بدأوا فكر(التجديد الأمين)لفهم وتطبيق صحيح الدين ونصوصه ولم يزايد عليهم أحد فى هذه ( الأمانة )التى صاحبتهم فى كل أراءهم الواصلة بين الدين والحياة رغم المعوقات الضخمة (سياسيا بالأساس)التى واجهت أفكارهم ومشروعهم الكبير فى النهوض بالأمة. كل هؤلاء العظام تركوا إنتاجا ضخما أثرى المكتبة الإسلامية بما يجهله كثيرمن المتخصصين للأسف الشديد..ليس فقط المتخصصين فى المجال البحثى بل فى المجال السياسى . وأنا مازلت على رأى الذى ذكرته كثيرا من قبل أن الحديث المتكرر كل يوم عن الإصلاح والتجديد بعضه لا علاقة له بالتجديد الذى تعرفة الأمة تاريخيا وعلميا ..والذى هو عملية مستمرة تسير بسير الزمن ..هو فقط عند كثير من المثقفين الباهتين استنساخا ماسخا لتجربة الإصلاح الديني فى أوروبا ومارتن لوثر ورسالته الشهيرة للبابا ليون العاشر المؤلفة من خمس وتسعين نقطة.. وما الحكاية إلا (المجافاة والتكبر)على صحيح الدين والتجربة التاريخية للآمة فى البناء الحضارى.هم لا يريدون إعمال مبدأ التجديد ولا علاقة لهم بأدواته ووسائله. أولا لمحدودية المعرفة بالفكر والفقه والتاريخ الإسلامي وثانيا لأنهم يخادعون أنفسهم و الناس من حولهم فتارة يصف أحدهم نفسه بأنه(مسلم مرتبك) وتارة يصف أحدهم العلماء الأجلاء ب(الكهنوت).. والخلاصة التى نادرا ما يفصحون عنها هى رغبتهم الخبيثة في تحجيم حضور الدين فى المجال العام _إحداهن قالت من يقول لى سلام عليكم في التليفون أقفل الخط_ هم يريدون حصار الدين إلى أدنى مستوى من التمثل الاجتماعي والفكري..نفس الأسماء التى كانت تهاجم أفكار الصحوة(رغم الضعف والسطحية التى بدت من جيل الصحوة فى الأربعين عاما الماضية)هم ..هم ..الأن يهاجمون الأزهر وشيخه. ولخيبتهم الخيوبة يتصورون أنهم بهذا يكونوا قد وصلوا إلى(مطلبهم الخفى)والذى لا يجرؤون على الإفصاح عنه كما وصفهم العقاد رحمه الله من الأربعينيات وكأنه يصفهم اليوم أيضا :(أنهم يكرهون كل ما يحيى في الأمة نخوة وطنية أو روحية)..ولو استطاعوا ان يصلوا بالمجتمع إلى أتاتوركية تركيا التى أصبحت هامشا في صفات مطوية ..أو بورقيبية تونس التى أصبحت شبحا كئيبا..ما اكتفوا بذلك !! لكنهم ككل خبثاء التاريخ يتأرجحون ويتمرجحون بالخداع وزخرفة الكلام. هم يعلموا ان المصريين الطيبين يقولون في عمق أعماق فطرتهم الطيبة: إلا(البحر والمأذنة)كما قالت الراحلة د.نعمات احمد فؤاد على لسان قلوبهم النقية..أي نهر النيل والإسلام . لحقيقة بالفعل تكمن في مكان أخر تماما ..وهى أنهم أسرى لمفاهيم أخرى وتجارب أخرى تجاوزها التاريخ من زمن طويل ,,وسواء كانوا يؤمنون بهذه المفاهيم الأخرى حقيقة أم زيفا فهذا شيء لا يعنى الناس العاديين الطيبين البسطاء الذين يؤمنون أن الإيمان والحياة لا يفترقان. والناس العاديين بالفعل هم المستوى الحقيقي لتمثل الإسلام..من يدعون أنهم النخبة لديهم مشاكل عقلية ونفسية !! بعضهم يعانى من أوجاع فلسفية عقيمة تتصل بمسألة الإنسان والوجود والمصير وتلك الموضوعات التي لا يستقل العقل بإدراكها والإحاطة بها .. وليس مطلوبا من الناس أن تدفع فاتورة هذه الأوجاع والشكوك العبثية التى تتحرك في عقولهم كالفئران الجائعة. حقيقة الأمر أيها الأصدقاء أن هناك مشروعا تجديديا وإصلاحيا كبيرا وتاريخيا وموثق وموثوق به . هم فقط يتعامون عنه ويغفلونه لأنه يضعهم فى الزاوية الحادة ويضيق عليهم أرضهم البور, مشروع موفور الصلة بالإسلام وميراثه نصوصا وتجربة.. وموفور الصلة بالحياة والناس إدراكا وفهما. وعلينا جميعا أن نقر ونتأكد أنه طوال ما بقى الإسلام تحديا ثقافيا وأخلاقيا لقيم الغرب وحضارته _وهو كذلك بالفعل_و يحمل فى داخله إحياء وبعث الأمة فى مواجهة ذلك الغرب ودراويشه الذين يقيمون بيننا ,,سيستمر هجومهم الملتوى والمتخفى على الإسلام واستخدام كل الطرق والوسائل لذلك .. وأيضا _وهو الأهم _ استخدام واستغلال الظروف الاجتماعية والسياسية لمحاصرته ,, سواء بالهجوم على تيارات الصحوة والإحياء قديما أو على الأزهر وشيخه وعلماؤه الأن .