من خرافات التأريخ المتداولة كثيرا أن السادات سار سيرا معاكسا تماما لما كان يسير عليه الرئيس السابق..وهى مقولة كاذبة تماما وسنظهرهنا كم هى كاذبة فعلا وكم هى(تضليلة)من تضليلات اصدقائنا القوميين واليساريين الذين أخرجهم السادات من حساباته السياسية تماما وتركهم فى العراء يحكون الحكايات ويروون الذكريات..ولا يساوى هذه(التضليلة)فى ضلالها إلا مقولة صنع السادات(للتيار السياسى الاسلامى)ليضرب به اليساريين والقوميين وهم بذلك يهينون انفسهم لأنهم ببساطة يتهمون انفسهم بأنهم لا يعيشون ولا يزدهرون الا فى حضن(السلطة)تماما كما وصفتهم الراحلة اروى صالح فى كتابها الشهير(المبتسرون) فاذا القت بهم السلطة فى الشارع فلا وجود لهم فى دنيا الناس والأفكار..وأكبر دليل على ذلك هو هلعهم بعد أن _قذفهم السادات_ الى السلطة عند القذافى وصدام والأسد..واتصور لو ان عددا من المؤرخين الجادين كما رأيناهم فى كتاب (فى تشريح الهزيمة) عملوا على كشف طبيعة هذا الموضوع واستخدموا ادوات البحث التاريخى المجرد الذى يبحث فى حقيقة الاشياء وجذورها لا مجرد سردها لأمكنهم ببساطة شديدة ان يقتربوا كثيرا من حقيقة هذه المقولات.. هم فقط يستخدمون الاسلوب البالى القديم فى تكراراها ظنا منهم بذلك أنهم يحولونها الى حقائق من كثرة تردادها وتكرارها..وليكتشفوا مثلا ان النظام السابق كان هو الذى بدأ استخدام العبارات والمصطلحات(الدينية) بعد الهزيمة الفضيحة فى 5 يونيو..فما ردده السادات عن نفسه بأنه(الرئيس المؤمن)كان تطويرا لمقولة سابقه قالها عبد الناصر فى رسالة له للفريق فوزى وزير الحربية فى اغسطس 1969(إنني أريد أن يتدبر رجالنا من ضباط وجنود القوات المسلحة مشاعر اليومين الأخيرين..إنهم في معركتهم القادمة ليسوا جند أمتهم فقط ولكنهم جند الله..)..ومصطلح (جند الله)سنسمعه كثيرا فى السبعينيات وما بعدها ..وأيضا حضوره للاحتفالات الدينية الرسمية وزياراته الشهيرة للأزهر والحسين.. وليكتشفوا أيضا أن 5 يوينو نفسها كان يرتب لها نتائج سياسية بالأساس ويحكى لنا الفريق صدقى قائد القوات الجوية اثناء الهزيمة فى شهادته المسجلة صوتيًا بلجنة كتابة التاريخ 1976م والتى لا يدرى أحد أين ذهب وأختفى ما كتبته هذه اللجنة؟ وما هى العبر الحقيقية المستفادة من هذه الهزيمة وما مقدماتها والأسباب التى مهدت لحدوثها على هذا النحو المشين الذليل؟.. يقول الفريق صدقى: أن الرئيس عبد الناصر قال له فى اجتماع كان يحضره الفريق أنورالقاضي رئيس هيئة العمليات واللواء علي عبد الخبير مدير الأركان بالقيادة العليا واللواء صادق مديرالمخابرات الحربية وشمس بدران وزير الحربية فى القيادة العامة للقوات المسلحة _مكتب عبد الحكيم عامر_:قال عبد الناصر:علي فكرة يا صدقي أنا اتخذت قرار بأنك ما تضربش الضربة الأولي ! ولأول مرة يعترض صدقي ويقول: قرار إيه اللي أخذته سيادتك ده؟ فقال عبد الناصر بحسم:هو كده..إحنا مش ها نضرب الضربة الأولي! وحاول صدقي أن يوضح معني القرار ودارت مناقشة بينهما وقال:كوني أتلقي الضربة الأولى ..أنها تشلني عن الحركة أو تعطلني..بعدها التفت عبدالناصر نحو المشير ثم قال: طيب يا صدقي..تحب تضرب أنت الضربة الأولي وبعد كده تحارب أمريكا وإسرائيل؟ وسأله صدقي:هل سيادتك متأكد أن إسرائيل لو وجهت الضربة الأولي ح تكون وحدها برغم المعروف لنا من المخابرات؟ وكان جواب الرئيس:أيوه..! فقال صدقى: المسألة مش قادر أعقلها ولكن إذا كان كده يبقي أمري لله.. وقال عبدالناصر بانفعال: عمومًا الموضوع كله سياسي وسيتم حله سياسيًا! ثم انصرف.)هكذا تحدث الرئيس عبد الناصر عن أمريكا قبل الهزيمة والتى تطورالخطاب عنها بعد الهزيمة بطبيعة التطورالطبيعى( للحاجة السياسية) وما تمليه ضرورات الحاجة السياسية ومقتضياتها أنها تملك( 99% من أوراق اللعبة)..ثم _وهذا هو الأهم_ ختم كلامه بأن الموضوع كله سياسى وسيتم حله سياسيا..والجملة تحمل من المضامين المضمونة ضمانا ضمينا وتحمل من الأسرار ما لا يعرفه إلا الرئيسين العظيمين عبد الناصر والسادات..سيكون هاما ايضا وصل علاقة الاثنين بالراحل الكبير ا/هيكل الذى استمر يعمل الى جوار الرئيس السادات بعد وفاة عبد الناصر28/9/1970 حتى بدايات عام 1974 وليس هاما هنا طبيعة العلاقة بين السادات وهيكل وجوانبها(والتى هى مليئة بالأسرار)بقدر ما نريد التدليل والتأكيد على أن الخط كان ممدودا على استقامته تماما حتى يصل الى كامب ديفيد..ولنأت لمشهد مبكر فى الطريق الى كامب ديفيد وهى الاتصالات التى جرت بين ا/ هيكل وبين هنرى كيسنجر ووسائل الاتصال طريفة. وتستأهل حكيها ..ذلك ان الدكتور زكى هاشم(المحامى الشهير ووزير السياحة الأسبق)اتصل فى مايو سنة 1971 بهيكل وقال له أن رونالد كاندل رئيس مجلس إدارة شركة بيبسي كولا الصديق القريب للرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون وقتها (نيكسون أصلا كان لسنوات طويلة محامياً لبيبسى كولا!!؟؟)موجود الآن فى القاهرة و يريد أن يسمع عن أزمة الشرق الأوسط ويتفهم موقفنا فيها ويقول ا/هيكل :دعوت رونالد كاندل إلى فنجان قهوة فى مكتبي ومعه الصديق زكى هاشم وقضيت أكثر من ساعتين أشرح له وجهة النظر العربية فى أزمة الشرق الأوسط كما تصورتها وقتها وحين عاد كاندل الى بلاده قابل نيكسون وحكى له عن النقاش الذي جرى بيننا) وفى رسالة من كاندل الى هيكل يقول له:لقد أبلغت الرئيس عن عزمي على دعوتك لزيارة الولاياتالمتحدة وأعرب هو أيضاً عن أمله فى أن تقبل دعوتي..ويكمل هيكل: كذلك عرفت فيما بعد أن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون قد رحب بزيارتي لواشنطن على أساس أن يدور حوار بالعمق – على حد تعبيره – بين مستشاره لشئون الأمن القومي هنري كيسنجر وبيني..)..ومن هنا ايها الأصدقاء كانت الحكاية ..السادات وهيكل كانا من اقرب المقربين لعبد الناصر فى سنواته الاخيرة وهناك الف دليل ودليل على ذلك..وهكذا كان حضور(عزيزى كيسنجر)كما كان يقول السادات فى كل ما سيأتى بعدها من انهيارات ..ما هو الا تسلسلا سلسالا سليلا حتى نصل الى كامب ديفيد..مرورا عبر كل ذلك بما لا يحصى من الاحداث والبشر والغامض واللامنطقى واللامألوف واللامتوقع ..وعلى من يشرب زجاجة بيبسى كولا ان يمد نظره بعيدا ويتخيل انها ليست مجرد زجاجة مياة غازية..إنها غرائب الاحداث وخوارق الوقائع. .إنها الاعماق الأكثر غموضا وبريقا..انها خلطة خاصة من الطموح والإلهام والسلام..إنها الاستاذ هيكل وعزيزي كيسنجر. كل الدلائل والقرائن تؤكد اذن الثقة والولاء التام بين ناصر والسادات والذى لم يكن من طرف واحد بل كانت ثقة كاملة متبادلة بينهما ..سنسمعه وهو يصف السادات بأنه(السياسى الوحيد)بين كل أعضاء مجلس قيادة الثورة فى رده على سؤال لمصطفى امين:من خليفتك فى قيادة الثورة؟..ليس هذا فقط بل وعندما حدثت انتخابات اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي عام 1961وجاء ترتيب السادات الرابع بعد على صبري وحسين الشافعي ومحمود فوزى غضب السادات وأعتكف فى منزله (معرفة منه بأنها مزورة)فما كان من صديقه الصدوق عبدالناصر إلا زيارته فى بيته قائلا له أنه لن يعترف بنتائج هذه الانتخابات..وبالفعل طلب من شعراوي جمعه أن تظل الأقدمية كما هي وكما قررها عبدالناصر بنفسه من قبل وهي أن يكون عبدالناصر أولا ثم السادات بعده مباشرة..ليس هذا فقط بل وبعد أم الهزائم 1967م ازداد القرب بينهما الى أبعد مما يمكن تخيله..و كان بيت السادات فى الهرم هو المكان الوحيد الذى يذهب اليه الرئيس المهزوم تقريبا كل ليلة لكى(يقضى عدة ساعات مع صديقٍ)وكانت تستمر زياراته حتى الفجر شاكيا وحاكيا همومه و مشاكله و مشاغله ومصارحا له بكل شيء مما دفع بثروت عكاشة (وكان من المقربين لعبد الناصر)للتساؤل عن سرهذه الزيارات لبيت السادات بصفة خاصة فأجابه عبدالناصر فورا وبوضوح تام: ابداً إنني أرتاح للسادات و أضاف: أليس من حقي أن يكون لي صديق أرتاح إليه..ومن خلال تلك الصداقة الوطيدة عرف السادات من عبد الناصرما لم يعرفه بقية المسئولين فى الدولة ..سنعرف ايضا أنه كلف السادات بعقد اجتماعات أسبوعية مع السفير السوفيتي(سيرجى فينوجرادوف)لمناقشة القضايا السياسية والتصرف على ضوء نتائجها وأبعادها ونقل صورة كاملة لكل هذه الاجتماعات لعبدالناصر .. سنعرف أيضا أنه كلف السادات بالسفر إلى موسكو يوم 12/12/1969برفقة كل من الفريق فوزى ومحمود رياض وزير الخارجية لمناقشة كل القضايا السياسية والعسكرية.. خذ هذه ايضا عندما أصيب عبدالناصر بأزمة قلبية يوم 10/9/1969 ولزم الفراش تماما بأمر الأطباء استدعى السادات والفريق فوزى و سامى شرف شعراوي جمعه وهيكل و أمين هويدي وشكل منهم لجنة (برئاسة السادات)لتدير البلاد خلال فترة مرضه وأخيرا وفى 20/12/1969طلب عبدالناصر من السادات أن يستعد ليؤدي اليمين ليكون نائباً لرئيس الجمهورية.. يومها كان السادات وحسين الشافعي فى منزل عبدالناصر لمرافقته إلى المطار فى رحلته الأخيرة للمغرب وتولى السادات مسئوليات نائب رئيس الجمهورية بصفة رسمية وتم نشر قرار التعيين فى الجريدة الرسمية بتاريخ 25/12/1969. هذه هى الاعماق العميقة التى أتى منها السادات الذى يريد البعض ان يغافل التاريخ ويغافلنا ويصنع قصص وحكايات شتات من شتات ليقولوا للأجيال كذبا وزورا أنه كان هناك عهدين,, أحدهما كان على رأسه بطل مغوار والأخركان على رأسه خائن غدار..لكن الحقيقة تأبى طول الاختفاء كما يقولون..والحكاية تأبى إلا أن تكون كما وقعت..فالرجلين لم يخرج أحدهما من جلباب الاخر طوال السنين العجاف التى حكموا فيها ..ولو نزعت رأس هذا ووضعتها على جسد هذا ما وجدت فارق بينهما ..فقد آن الأوان لأن نتكلم عن الأشياء بلغتها الحقيقية. هذه هى الرواية المرجعية والحكاية المكتملة لكامب ديفيد المحصلة الحصيلة ل 5 يونيو ..الزلزال الذى جاءت بعده زلازل ارتدادية من النوع نفسه وبنفس حدته(كامب ديفيد) وصنعت تلك الزلازل المتلاحقة كل ما يعيشه العرب من خرابات وتبعيات وتحولات مرعبة. حذر منها الشاعرالراحل صلاح عبد الصبور فى (ليلى والمجنون): يا أهل مدينتنا ..يا أهل مدينتنا/ انفجروا أو موتوا/ رعب أكبر من هذا سوف يجيء.. وفعلا جاءت (كامب ديفيد).