أتى رمضان هذا العام فى مناخ شديد الحرارة, لكن المشهد السياسى يبدو أكثر سخونة, ولعلنا فى هذا الشهر الفضيل، ونحن نتنسم نسمات الرحمة نحاول أن نستظل تحت مظلة من القيم والأخلاق نستلهما من تاريخنا الإنسانى. لقد أتى الإسلام بمكارم القيم والأخلاق, ولعل ذلك أكثر ما جذب الناس إليه, فحينما كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يعرض هذا الدين على الناس، مُوضحًا ما يدعو إليه, كانت تأتى أغلب ردود الناس عليه بقولهم: لقد جئت يا أخا قريش بمكارم الأخلاق.. وفى الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم [إنما بُعثت لأتمم صالح (مكارم) الأخلاق], وهذا يعنى أن النبى صلى الله عليه وسلم يُقر أن رسالته رسالة أخلاقية فى المقام الأول, كما يقر أيضًا أن ثمة أخلاقًا معتبرة كانت بين الناس قبل رسالته, نفهم ذلك من قوله (أتمم).. وقد أنصف النبى (صلى الله عليه وسلم) العرب بكريم حديثه ذاك, فقد كانت فيهم مكارم أخلاق سامية, وحين ننظر فى واقعنا اليوم حيث تبدو الدنيا أكثر تقدما وازدهارا فى البنيان والاتصالات وغير ذلك, لكننا نلحظ مع هذا التقدم (الصناعى والزراعى والعقاري) تخلفًا واضحًا وتراجعًا كبيرًا فى منظومة الأخلاق, بل قد يرنو بعضنا إلى مواقف من آلاف السنين فيراها لا تزال تشع نورا, مع أنها لم تكن نابعة من دين أو رسالة, لكنها كانت تتسق مع فطرة سوية وسليمة (فطرة الله التى فطر الناس عليها). ولعل هذه السلسلة الرمضانية تجعلنا نشعر بالألم مما آلت إليه أخلاق بعض الناس فى واقعنا المعاصر، الذى يبدو للرائى أنه أكثر تقدمًا وتحضرًا!! أبو بكر وابن الدغنة حينما صدع النبى صلى الله عليه وسلم بدعوة الحق, وكذبت قريش بالرسالة وتعرض المسلمون للإيذاء, كما يتعرضون له الآن فى عدة أماكن على وجه الأرض بلا أى ذنب أو جريرة سوى أنهم مسلمون, وقد أوصى النبى (ص) أصحابه بالهجرة إلى الحبشة لأن بها ملكا لا يُظلم عنده أحد (كم نحن فى شدة الشوق اليوم لحكام لا يظلمون الناس سواء فى المشرق أو المغرب).. خرج أبو بكر مهاجرًا قبل الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد (كما جاء فى صحيح البخارى من حديث عائشة) فلقيه ابن الدغنة، وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر.. فقال أبو بكر: أخرجنى قومى فأنا أريد أن أسيح فى الأرض فأعبد ربي, قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج ولا يُخرج فإنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلادك, فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبى بكر فطاف فى أشراف كفار قريش فقال لهم، إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يُخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقرى الضيف ويعين على نوائب الحق فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبا بكر. الشاهد: أن ابن الدغنة (المشرك) المخاصم لأبى بكر فى دينه وعقيدته, رفض خروج أبى بكر لاعتبارات وطنية (إن صح التعبير) فقد كان يحب ابن الدغنة وطنه, ورأى أن سلامة المجتمع تقتضى الحفاظ على العناصر الطيبة فيه وعدم افتقادها, لأن وجود مثل تلك العناصر يحقق خيرات ونفع للمجتمع (كصلة الأرحام ورعاية المُعدمين وأصحاب الحاجات والأزمات والشدائد). وإذا نظرنا إلى هذه الأيام لوجدنا أن بعض الناس يتندرون ويسخرون من المتدينين ويتمنون الخلاص منهم واختفاءهم من المشهد الراهن, لذلك نحن بحاجة إلى استحضار ما فعله (ابن الدُغنِّة) قديمًا, فليكن لكل منا عقيدته, وليكن لكل منا توجهه السياسى والفكري, وليكن لكل منا موقعه, لكننا يجب أن نعظم حب الأوطان (لا بشكل غنائى) ولكن فى صورة عملية, فلا يسعى الزاعمون بحب أوطانهم إلى إقصاء أصحاب الخير فى مجتمعاتهم, لأن ذلك من شأنه أن يهدد سلامة المجتمع واستقراره، كما فطن لذلك ابن الدغنة (المُشرك) منذ ألف واربعمائة سنة!! [email protected]