هذه أيام مباركة نشم فيها رائحة ثورة 25 يناير 2011. أيام عشناها وانتهت سريعا كأنها حلم. الحمد لله الذي أتيح لجيلي الذي اقترب من الرحيل عن الحياة أن يرى الحرية والطموح والبشر المتساوين دون تمييز لهذا أو ذاك، برتبته في جهاز أمني، أو منصبه الكبير، أو نفوذه المترامي الأطراف. هذه الدنيا العادلة التي لا تميل فيها كفة ميزان بغير قواعد الحق والنزاهة والعدالة المطلقة، عشناها وقتا قصيرا بفضل شباب أنقياء قاموا بثورة يناير وأنهوا عهد نظام مستبد أبدي. بعد خلع نظام مبارك كنت تذهب لمصلحة حكومية لتنجز عملا فلا يملك أي موظف جرأة أن يطلب ما في جيبك ولا أن يعقد لك الأمور بحيل روتينية كالجبال الراسية. أتذكر ذلك جيدا بمشاوير عملتها ولاحظت حرص من يؤديها على الانصياع الكامل للقوانين والأداء المتقن لواجبات وظيفته. أتذكر أحدهم عندما قال لي "الوضع تغير" معتذرا عن تلبية طلب معين دون استكمال الحيثيات المطلوبة. كان الأمر سهلا قبل الثورة أن تمنح المسئول ما يجعلك تستلم طلبك قبل أن يرتد إليك طرفك! لكن الحلم انقضى سريعا. الفساد الذي توارى خوفا من الثورة عاد أدراجه أقوى ما يكون، بل وزادت جرأته حتى رأينا في الأيام الماضية محافظ المنوفية يتم القبض عليه بتهمة تلقي رشوة مليوني جنيه. الرقم تافه جدا لكي يغامر محافظ في مرتبة رئيس جمهورية بمنصبه. المليونان لم يعودا ذلك الرقم المرعب الذي لا تستطيع عده، إنه رقم عادي جدا في ظل فواتير الغلاء المتخمة هذه الأيام. والأدهى نشرت وسائل الإعلام أن "كيد النساء" هو الذي أوقع بالمحافظ المتزوج من زوجة ثانية تعمل في الرقابة الإدارية، وبسبب غرور الفساد والمنصب خيل له أنها ستمرر له زواجه من ثالثة! الفساد ينتشر ويتجرأ في ظل بيئة تساعده على ذلك. إنه جزء من كل، يعيش ويترعرع في مستنقعات عفنة لا عدالة فيها ولا حقوق. البقاء للأقوى والنفوذ للفاسد الذي يملك ما ينفقه على فاسدين مثله يسهلون له السرقة والاستيلاء على حقوق الدولة والغير. ما أجمل الحلم الذي عشناه شهورا قليلة جدا بعد ثورة يناير، وما أسوأ الكابوس الذي انتقلنا إليه حتى بات كل منا يتمنى يوما واحدا من أيام مبارك. عندما يشتد الظلم تتمنى الظلم السابق الأخف منه. عندما يجتاح وباء الخوف من المجهول تتمنى أن تعود إلى ما كنا نعانيه في الماضي. البعض القليل جدا في بحبوحة يعيشونها من المال واليسر والترف يظنون أن الشعب كله مبسوط وسعيد، ينام متعشيا ويسيتيقظ مفطرا. هذا البعض يعيش داخل أسوار حياته المكتفية، لا يرى غيره ولن يراه. لا يمكنه تخيل حال ملايين الفقراء الذين ازدادوا فقرا ومرضا وجهلا. لا يصدق أن الفاسدين واللصوص أصبحوا بالملايين. لا يريد أن يقر بأن البلد تسير إلى الأسوأ تحت وطأة ديونها وغياب الانتاج الحقيقي والمصانع، والتهليل لانجازات الكتل الأسمنتية التي لا تسمن ولا تغني من جوع عندما تشتد الفاقة ولا يجد الناس ما يأكلونه. تحية لأيام يناير المباركة 2011. تحية للشباب الغض الجميل الذين حملوا لنا الأحلام الوردية على أكفهم وقدموا أرواحهم ثمنا لها. أما أنا وغيري من المسنين فسنذهب بعد قليل إلى رب كريم راضين بالحلم الذي تذوقناه تاركين أبناءنا وأحفادنا لمصيرهم. اللهم الطف بهم. [email protected]