على الرغم من الصورة التي حاولت إدارة ترامب أن تظهر بها في أعقاب الاحتجاجات والغضب العربي والإسلامي ضد تصديق الرئيس الأمريكي على قرار نقل سفارة بلاده إلى القدس واعترافه بالمدينة المقدسة عاصمة للكيان الصهيوني ، إلا أن وقع الاحتجاجات والغضب الشعبي والرسمي وصل إلى أبعاد أكثر عمقا لدى إدارة ترامب المثقلة بالكثير من المشاكل الداخلية والخارجية ، وأعتقد أن توابع قراره بخصوص القدس كان كارثيا بخصوص مكانة واشنطن ودورها في الشرق الأوسط ، وخاصة قضيته الأهم والأخطر ، قضية فلسطين . كانت مندوبة الولاياتالمتحدة في مجلس الأمن "نيكي هايلي" قد أظهرت نوعا من الغطرسة بتعليقها على الاحتجاجات بأنها كانت تتصور أن السماء سوف تنطبق على الأرض بعد صدور القرار ، لكن شيئا جديا لم يحدث ، وهو تصريح "عبيط" لا يصح أن يصدر من ديبلوماسي رفيع ، وفي قضية لها كل هذه الحساسية في العالم وليس العالم العربي وحده ، ولكن كان هذا التصريح في جوهره دلالة على العصبية والتوتر الذي تعيشه الإدارة الأمريكية من موجة الغضب من القرار والتهديد بمواقف إسلامية وعربية قد تزيد الأمور تعقيدا أمام الولاياتالمتحدة في دورها في ملف قضية الصراع الفلسطيني "الإسرائيلي" ، وخاصة بعد قرار المؤتمر الإسلامي الدولي الذي عقد في اسطنبول الاعتراف الجماعي بدولة فلسطين وعاصمتها القدسالشرقية . اليوم كان التصريح الأوضح من الإدارة الأمريكية الذي يكشف عن نوع من التراجع الضمني عن القرار ، وهي التصريحات التي قدمتها للصحفيين المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الأمريكية "هيدز نويرت" ، والتي مهدت لها بقولها ، حرفيا حسب تغريدات الصفحة الرسمية للوزارة على تويتر : (الرئيس ترامب ملتزم بعملية السلام ولم يتغير ذلك. هذا النوع من الخطابات التي سمعناها منع حدوث السلام في الماضي. ما زلنا نعمل بجد لوضع خطتنا. ونعتقد أن ذلك سيفيد الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني على حد سواء) . ثم كان التصريح الأهم والكاشف لعمق أزمة واشنطن بعد القرار ، وهو قولها : (تخضع الحدود المحددة للسيادة الإسرائيلية في القدس لمفاوضات الوضع النهائي بين الطرفين. الولاياتالمتحدة لا تأخذ أي موقف بشأن أي قضايا تتعلق بالوضع النهائي، وستؤيد حل الدولتين) . وهذا الكلام يعني من الناحية العملية تفريغ قرار ترامب حول القدس من مضمونه ، لأنه تحول إلى "تنظير" لا صلة له بالواقع ، ولا يحدد ما هي القدس التي يعنيها ، ولا ما هي المساحة الجغرافية التي يقصدها ، وقال أن هذا كله متروك لمفاوضات الحل النهائي بين الطرفين ، هذا الكلام بوضوح يعني تراجعا ضمنيا من الإدارة الأمريكية عن قرارها . ثم ختمت السيدة نويرت كلامها بقولها : (نأمل أن نواصل محاولة العمل مع الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء لمحاولة فرض نوع من اتفاق السلام حتى يتمكنوا من الجلوس وإجراء محادثات حوله. وسنواصل دعم ذلك. وسنواصل محاولة دعم كلا الجانبين). هذا تطور مهم في الأزمة التي أقلقت العالم كله ، والجميع كان يعرف أنها توظيف لقضية حساسة مثل القدس في حسابات سياسية داخلية في أمريكا ، يخاصمها العالم كله ، وليس العالم الإسلامي وحده ، وأعتقد أنه بهذا المخرج الذي قدمته الخارجية الأمريكية لترامب وإدارته من "مطب" القرار ، يكون الطريق مفتوحا أمام جهود حقيقة وجادة لتسوية سياسية . أهم ما في تلك التطورات ، أنها درس بعدم الاستهانة بأي جهود سياسية تتحدى الصلف الأمريكي أو غير الأمريكي الذي يمس المصالح العربية والإسلامية ، وأن محاولات التقليل من شأن المبادرات والجهود فضلا عن السخرية منها من بعض "المكتئبين بالفطرة" من المثقفين العرب ، كما حدث تجاه مؤتمر القمة الإسلامي في اسطنبول ، هو خذلان للقضية وخدمة للأعداء ، ونوع من "الكيد" السياسي الرخيص الذي يتنزه عنه العقلاء في أي مكان أو موقع جاد . كل التحية للشعوب التي انتفضت وتظاهرت وأعلنت غضبها في مئات المدن والعواصم ، والتحية بشكل خاص لأهلنا في فلسطين ، وكل التحية للقادة والزعماء ، ملوكا ورؤساء وأمراء ، الذين سجلوا موقفهم الصريح بالرفض للقرار والتحذير من مغبة توابعه ، وكل التحية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان صاحب مبادرة الدعوة لمؤتمر قمة التعاون الإسلامي ، والشكر لكل الحضور فيه أيضا ، والشكر لكل الأقلام التي كتبت أو حتى تلك التي غردت على مواقع التواصل الاجتماعي وهو أضعف الإيمان ، القدس بحاجة إلى جهود الجميع ، وبحاجة لأن يترفع الجميع عن خلافاتهم عندما يكونون أمام خطر محدق بها . [email protected] https://www.facebook.com/gamalsoultan1/ twitter: @GamalSultan1