لا يسعني أن أنكر الخيرية التي جُبِلوا عليها في أغلبهم، فهم إلى الخُلق الحسن أقرب منهم إلى غير ذلك، ومن حيث الاهتمام بشؤون المسلمين لهم باع ودراية، وهم إذا تحدّثوا عن أمجاد المسلمين الأوائل أحسنوا، وإن حدّثوك عن أمانيهم في عودة تلك الأمجاد أبانوا عن عاطفة جيّاشة متأججة.. وهم في مجتمعات غلب عليها لهو الحديث وبذاءة القول وانحدار الخلق وتفشي السوء، يبدون كنجوم متلألأة في سماء ليل مُدلهم!! فتكبُر فيهم الآمال وتمتد الظنون، وتعظم الرهانات.. وأخشى أن أقترب أكثر فأفيق على سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء!! لست أخاف عليهم من شيء قدر خوفي من تسلط النرجسية عليهم، ولعلهم بسبب ما تقدّم من صفات هي أقرب للخير زكّوا أنفسهم زكاة لا تتفق مع الحال، وهي في الأساس من الممنوعات قرآنا وسنة.. فهم النرجسيون الجدد– وأعوذ بالله تعالى من الوقوع في خطيئة التعميم- غير أن هذا استقراء لما ينعكس من أرائهم في ذواتهم ومنهجهم عبر آلاف من صفحاتهم الشخصية، بحيث غلبت أدبيات مقالاتهم عن أنفسهم أدبيات راقية محفوظة عن أسلافهم، فلا أبقت الأدبيات الحديثة على رونق ما أُثر عن هؤلاء الأسلاف وحُفظ في المكتبات، ولا هم قدّموا صورة مشرقة واقعية عن حالهم الآني!! جاء عن بعض السلف قوله: (ما أسرّ عبد سريرة إلا أظهرها الله على قسمات وجهه أو فلتات لسانه).. وهذه المتلازمة يعتمد عليها علماء النفس اليوم لتبيّن حقيقة ودوافع كل فرد على حده.. والأمر أعم وأخطر وأظهر من لفتات اللسان، حتى يكاد يأخذ شكل السمت العام المسيطر على الأقوال والآراء.. وقبل ذلك قال حكيمهم: اسمعوا منا ولا تسمعوا عنا!!.. وهذا والله هو عين العقل والإنصاف معا، فإذا أردت تقويم تجربة ما فاسمع من أصحابها مباشرة، الأدبيات تعبّر عن سقف الطموح المُراد الوصول إليه، لكنها ليست بالضرورة تعبر عن مقام الحال.. ولو اكتفينا بقراءة الأدبيات الراقية المحفوظة، فكأننا يجب علينا أن نكتفي بأوصاف القرآن الكريم للمؤمنين لبيان حال عموم مسلمي اليوم!! فهل هذا عقل أو إنصاف؟!.. صفات المؤمنين في كتاب الله تبيّن ما يجب أن يكون عليه المؤمن لا تصف حاله الواقعي.. وبين المأمول والواقع فجوة قد تكون، أو جسر يعبره المؤمن بالالتزام والطاعة.. وهكذا الفرق بين الأدبيات المحفوظة والأدبيات التي تنطلق على ألسنة الناس وتنطق بها صفحاتهم المعبّرة عنهم.. النرجسيون الجدد يرون في أنفسهم صدق الإيمان وعظيم الفهم وعبقرية قراءة التاريخ والواقع والمستقبل وجميل التوكل، ويخلعون على أنفسهم صفات الرجولة والشجاعة والنبل والفروسية والإقدام والإخلاص والتضحية والفداء.. إن ابتُلوا فالابتلاء أقرب للمقربين، وإن عُوفوا فالعافية دعاء سيد المرسلين، وإن زُلزلوا زلزالا شديدا فالزلازل والمحن سنة الأولين، عقيدة الاستعلاء التي فهمومها من كتابات سيد قطب على غير ما أوضح وأبان، تمكّنت منهم فأصبحوا يستعلون بذواتهم لا بإيمانهم.. ولو أنهم جمعوا لأنفسهم خصال الخير كله وقصروها على أنفسهم لهان الأمر – على خطورته وشرّه- ، لكنهم مع احتكارهم للخيرية جميعا حقّروا كل أحد سواهم، فهذا ذو فهم منقوص أو مغلوط، وهذا لا يهتم بأمر الإسلام والمسلمين، وهذا قد بات في بيته معافى وإخواننا في السجون، وهذا لا يعرف من الدين غير صوم وصلاة وذروة الدين جهاد في الصميم فلنجاهد أو لتلفظنا الحياة.. وهؤلاء قاعدون، وأولئك قد تولوا يوم الزحف، وآخرون خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فلا تأخذوا عنهم ولا تقبلوا لهم نصحا!!.. وهذا لا يطبق في منهجه شمول الإسلام، وذاك منقطع للعلم دون العمل، وذلك متحمس لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع.. المناهج كلها ناقصة إلا منهجهم، والاجتهادات كلها طائشة إلا اجتهادهم، والتجارب كلها مبتورة إلا تجربتهم، وإذا كان حصادهم الفشل الذريع على كل صعيد وفي كل اتجاه فلأن المؤامرات الكونية تضافرت لإطفاء نور الله المتمثل فيهم، وغدا سينتصرون وعسى أن يكون قريبا.. فلم تتوقف النرجسية عند حد تزكية النفس وتزكية الذات، وإنما تعدت ذلك إلى تحقير لكل مختلف أو مخالف أو متحفّظ، تحقيرا أدى إلى مبادئة بعداوة وخصومة تبدأ بتسفيه الرأي وتحقير الفعل واستصغار المواقف وكأنهم لا يرضون من الناس إلا أن يكونوا في صعيد واحد معهم طوعا أو كرها.. دليلهم القاطع الذي تواتر على ألسنتهم ومنطقهم وكتاباتهم على رفعة مكانتهم ووضاعة الآخرين، أعداد السجناء منهم والشهداء.. وكأنه لا يُسجن في هذه الحياة الدنيا إلا الأتقياء!! لقد قُتل في ميدان السلام السماوي في بكين بالصين زهاء أربعة ألاف شخص، لم يكونوا مسلمين ولم يرفعوا شعارات إسلامية، سالت دماؤهم لغرس الحرية والقيم الإنسانية 4يونيو 1989.. فليس الموت في سبيل قضية ولو بلغ بالآلاف دليلا على قبول الله تعالى للقربان من عدمه، فهذا علمه عند ربي وهو موكول له وحده سبحانه.. لكنه دليل على صدق الإيمان بقضية.. وأن تكون صادقا في إيمانك بقضيتك لا يلزمني ضرورة أن أؤمن بما تؤمن به، فليس لقضيتك إجماع بسند قطعي الثبوت قطعي الدلالة من نص مقدس مُلزم للجميع، ولا هو محل إجماع بين عموم الناس!! تذكّروا أيها النرجسيون الجدد أن تضحياتكم وإن عظُمت فهي في سبيل فكرة آمنتم بها، ومنهج ارتضيتموه لأنفسكم، الفكرة والمنهج منبثقان لا شك عندي من قيم إسلامية ثابتة، لكنهما ليسا التأويل الوحيد لهذه القيم، إنما أنتم اجتهاد من الاجتهادات، فكل تضحية تقدمونها هي لتمكين رؤيتكم، وليس لتحقيق غاية نُجمع عليها معكم، فلسنا وليس كل مختلف مع رؤيتكم مُطالب بأن يقدّم القرابين لنصرة مشروعكم، لا تتيهوا إذن بتضحياتكم فهي في سبيل تمكين مشروعكم الخاص، أنتم لستم الأُمّة ولا بديل عنها لتكون نُصرتكم واجبة على كل مسلم، إلا إذا أريقت إنسانيتكم هببنا لنصرة القيم الإنسانية لاعتبارات إنسانية ليس لها دخل بصواب منهجكم من عدمه!! ثم إن المئات أو الآلاف من غير أتباعكم قد اُمتحنوا وابتُلوا بلاء شديدا في سبيل نصرة إنسانيتكم، فمنهم من قُتل أو سُجن أو شُرّد في منافي الأرض، وهؤلاء هم المضحّون حقا لأنهم يضحّون بأنفسهم وراحتهم وأموالهم في سبيل قضايا إنسانية تجمع عليها غالبية البشرية.. يُضحون من أجلكم دون أن تكونوا مشروعهم الخاص.. وهؤلاء إذا نقدوا مسلككم أو استراتيجيتكم أو خططكم سلقتوهم بألسنة حداد، تعيّرونهم بأنكم المكلومون وهم المعافون، أنتم المجاهدون وهم القاعدون!! لعمري إن لم تكن هذه هي النرجسية في أعمق صورها فما عساها تكون؟! عضو رابطة الادب الاسلامي العالمية [email protected]