تتحقق نبوءة الروائي الإنجليزي "جورج أورويل" بطريقة مدهشة " عندما قال :"إن مفهوم الحقيقة الموضوعية يتلاشى من العالم ، الأكاذيب ستنتقل إلى التاريخ " The very concept of the objective truth is fading out of the world, lies will pass into history ، لقد صدق الرجل إذن ، لذلك لم يكن أمرا مفاجئا أن يقوم أحد العكاشيين الجدد بالحديث بعبارات منفلتة دون ضابط علمي أو منهجي عن واحد من أعظم قادة التاريخ الإسلامي والإنساني أيضا ، وهو القائد والبطل : "صلاح الدين الأيوبي". وقد حاولت قدر الإمكان أن أبدو منضبطا ، ومتبعا للمنهج العلمي .. في الرد على مثل هذه الخزعبلات ، لكنني لم أجد شيئا يستحق أن نتوقف أمامه لكي نمارس بعض المناهج العلمية في التفكيك والتحليل للواقعة التاريخية سواء كنا نتعامل مع مصدر رئيس Primary Source أو مصدر ثانوي Secondary Source وكيف أنحلل شخصية كاتب الوثيقة التاريخية قبل الوثيقة نفسها ..(عمر المؤرخ- دينه- مذهبه الفكري- موقفه السياسي- السياق التاريخي...) وغير ذلك من القواعد العلمية قبل التوصل إلى أي نتائج غير موضوعية .. لكن العكاشيين الجدد لا يعرفون مثل هذه المصطلحات العلمية ، ويظنون أنهم قادة التنوير ! لكن شيئا ما يتطلب قدرا من التأمل ، و هو البحث عن العلاقة بين التغير السياسي و الفكري الذي حدث خلال السنوات الأربع المنصرمة ، ذلك لأنه بعد " الثلاثين من يونيو " - وربما قبله بقليل - كان ثمة مقدمات -أشبه ببالونات اختبار - تمارس من خلال بعض الأقزام للتحرش بالنصوص والرموز الإسلامية ، لكن ذلك التحرش بدأ يتصاعد بصورة تدريجية من حالات استثنائية متناثرة ، إلى موجات منظمة وموجهة ، حتى تحولت إلى قاعدة عامة ، فأصبح من المألوف أن يهاجم الإمام" البخاري " بوقاحة ، وأصبح من المعتاد أن توجه الشتائم ضد كبار المفسرين والأئمة على أيدي صبية لا يجيد أحد منهم أن يتحدث بجملة عربية صحيحة ، ودون أن يكون لأكثرهم (إلا القليل منهم) أي رصيد أو منجز فكري أو أدبي أو لغوي يحفظ ماء وجهه أمام مشاهديه ، ويمنحه شيئا من شرعية النقد والتمحيص ، لكن في هذا الزمن الذي أصبح فيه الحياء من حفريات الأخلاق ، ومن الذكريات القديمة ، تستطيع هذه الكائنات الطفيلية أن تكون هي المسئولة عن تجديد الخطاب الديني ، وتشويه الأبطال الحقيقيين لإفساح المجال للزعامات الورقية ، والفقاعات السياسية ، و المشوهين نفسيا ، لكي يحتلوا مكانا ومكانة في التاريخ ، متوهمين أن هذا التاريخ يمكن أن يجاملهم أو يجامل زعاماتهم المزيفة التي لا تستند إلى أي رصيد من إنجاز حقيقي . إن هؤلاء المزيفين يقرؤون التاريخ بطريقة معكوسة ، لا تعتمد على التسلسل الطبيعي والمنطقي في قراءة المقدمات للوصول إلى النتائج ، ولكنهم يتبعون منهجا آخر وهو (وضع النتائج أولا) ، ثم بعد ذلك البحث عن مقدمات تناسبها وتبرهن عليها. ، وبهذه الطريقة لا يتم تشويه الزعامات التاريخية فقط بل يمكن من خلالها تجاوز ذلك حتى يتم تشويه الأنبياء أنفسهم ، وهي ذات الطريقة التي يتبعها المتطرفون من أتباع الأديان والطوائف المختلفة لتشويه " نصوص " ورموز المنتمين إلى الطوائف الأخرى . إنها الطريقة التي اتبعها أعداء الأنبياء لصرف الناس عن دعوتهم ، فالمعجزة يمكن أن تفسر وفق قراءة هؤلاء على أنها نوع من السحر والشعوذة ، وقيادة الأنبياء للجيوش ، وخوض المعارك للدفاع عن الدماء والأعراض يمكن أن تفسر على أنها نوع من الإرهاب . ولأنه لا توجد ضوابط منهجية ولا معايير أخلاقية للحكم على سلوك الأفراد والجماعات ، فإن تلك الكائنات الطفيلية تشويه أي شيء وكل شيء من خلال استنتاجاتهم المغلوطة ، وعدواتهم النابعة من شعورهم بالتقزم . .بعد هذه المقدمة ، وقبل تفنيد مزاعم تلك الوجوه القميئة حول القائد صلاح الدين الأيوبي ، نحاول أن نقرأ شخصية هذا البطل في عيون خصومه الغربيين . لقد صدرت العديد من الدراسات الغربية عن ذلك القائد الأسطوري الذي عده البعض أحد أعظم قادة التاريخ الإنساني على مر العصور ، للدرجة التي جعلت الروائي الأسكتلندي "والتر سكوت" Walter Scott في روايته "الطلسم أو التعويذة "“The Talisman” التي تدور أحداثها وشخوصها حول الحروب الصليبة ، يقدم فيها "سكوت" " صلاح الدين " باعتباره رمزا للشهامة والفروسية ، فيخترع – انبهارا بشخصيته - ذلك المشهد المؤثر الذي لم تذكره أية رواية تاريخية ، فجعل "صلاح الدين "يذهب إلى "ريتشارد قلب الأسد" في خيمته ليعالجه ويقدم له الدواء (على الرغم من أن ذلك لم يحدث ) لكن الفيلسوف العكاشي لا يعرف أن هذا الموقف لم تخترعه الأدبيات العربية!. ومن تلك الكتب أيضا التي تناولت شخصية صلاح الدين كتاب : " صلاح الدين أمير الإسلام النبيل Saladin : Noble Prince of Islam للكاتبة الأمريكية Diane Stanley ، وكتاب : " صلاح الدين ، بطل الإسلام Saladin : Hero of Islam للمؤرخ البريطاني Geoffrey Hindley وكتاب صلاح الدين فارس الإسلام ، Saladin : Chevalier de l'islam للكاتب الفرنسي Gerald Messadié وكتب أخرى كثيرة ، أغلبها يقدم صلاح الدين باعتباره رمزا تاريخيا خالدا للشهامة والفروسية والتسامح . أما ادعاء أن صلاح الدين كان عنيفا مع الفاطميين ، فهذا ليس صحيحا ، حتى إن الرجل تباطأ في تنفيذ أوامر نور الدين زنكي بقطع الدعاء للخليفة الفاطمي العاضد على المنابر يوم الجمعة ، حرصا على تماسك الشعب المصري آنذاك ، وقد كاد ذلك الموقف يكلف صلاح الدين مستقبله السياسي و العسكري. أما موضوع عزل النساء عن الرجال ، فقد قصه الرجل العكاشي بطريقة كاذبة ، لأن هذا الأمر فعله " قراقوش" أحد رجال صلاح الدين من نفسه ، ولم يكن أمرا عاما ،بل كان مقصورا على أسرة الخليفة العاضد نتيجة للاضطرابات التي أثاروها بعد موته . وعموما فإن صلاح الدين لم يلجأ إلى قتل وتحريق واعتقال خصومه ومخالفيه .اتركوا العظماء إذن أيها الأقزام .. و مارسوا تطبيلكم للزعامات الورقية .