التقييم السياسى للمرشحين الإسلاميين المتقدمين لرئاسة الجمهورية لا يتعلق بالشخص وصفاته الخاصة فقط، وإنما هناك بالقدر نفسه وربما بأعظم منه، تقييم الظروف والملابسات التى تحيط به والواقع الذى سيعمل فيه، فهو ليس رئيسًا لأى دولة وأى نظام وأى حالة، وإنما رئيس لمصر فى لحظة التحول وانتزاع السلطة من العسكر والنظام القديم وتأسيس نظام جديد، ومن هنا كانت قناعة غالبية التيار الإسلامى بأن "أبو الفتوح" هو رجل المرحلة، بدون الانشغال الطويل بالمقارنة الشخصية له مع الدكتور محمد مرسى، فالتحدى الحقيقى الآن لمصر والمصريين هو فى نقل السلطة بأمن وسلام من الحرس القديم إلى سلطة الشعب نفسه بقواه المدنية وأحزابه ومؤسساته الشرعية، وقطع الطريق بشكل نهائى على "فلول" النظام السابق، أينما كانوا فى استعادة السلطة، كما أن مصر فى اليوم التالى لرئاسة الجمهورية ستحتاج البدء فى مشوار طويل يستغرق سنوات من إعادة بناء مؤسسات الدولة ودستورها على أسس جديدة "تطهر" حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية من الظلام والفساد ومولدات القمع والاستبداد، التى ترسخت طوال ستين عامًا من حكم العسكر، فمصر فى تلك المرحلة فى حاجة إلى شخصية تؤمن بالحريات العامة وسيادة القانون والفصل بين السلطات "وتمدين" المؤسسة الأمنية بما يجعلها درعًا للقانون وليست سوطًا على المعارضين وطى صفحة المعتقلات والمحاكم الاستثنائية والاستباحة الأمنية بكل صورها، وحماية التعددية وتحقيق العدالة الاجتماعية بكل مجالاتها، ونحو ذلك من قواعد سياسية تحتاجها مصر كأسس للبناء عليها فيما بعد، أيًا ما كان نوع البناء، وأظن أن هذه كانت وما زالت قناعتى، كما كانت قناعة الإخوان المسلمين أنفسهم، فأذكر أنى كتبت قبل فترة طويلة أن مصر بحاجة فى تلك المرحلة إلى شخصية ليبرالية مثل محمد البرادعى، لكن اضطراب الرجل وقصر نفسه السياسى خيب آمال الناس فيه، كما كان الإخوان المسلمون يحاولون الدفع بشخصية لها نفس المواصفات "الليبرالية" والمؤمنة بالحريات العامة وسيادة القانون من غير أبناء التيار الإسلامى، فبذلوا جهدا لترشيح منصور حسن، ثم بذلوا جهدا مع المستشار حسام الغريانى، وأسماء أخرى عديدة، إيمانًا منهم بأن مصر فى مرحلة "انتقالية"، وأن التحدى فى تلك المرحلة ليس الانشغال "بالمشروع الإسلامى" أو أى مشروع أيديولوجى آخر، وإنما الانشغال بالإنسان وحماية حقوقه وحرياته وكرامته وحقه فى التعبير والدعوة، والانشغال بالوطن وتعزيز استقلالية مؤسساته وتطهير قوانينه وصياغة دستوره، وحماية القوى السياسية والمدنية من تغول المؤسسة الأمنية أو العسكرية، وترسيخ القيم الديمقراطية بما يجعلها ثقافة شعب والتزام دولة. وأرجو أن نتأمل ذلك الإجماع الوطنى على عبد المنعم أبو الفتوح الآن وأسبابه، فهو ابن المشروع الإسلامى، كما أكد ذلك الدكتور عصام العريان، قبل أيام وغيره من قيادات الإخوان، ولكنه أيضًا شخصية ليبرالية بامتياز، يطمئن الجميع، إسلاميين وليبراليين ويساريين، إلى إيمانه الحقيقى بالحريات العامة وسيادة القانون والعدالة الاجتماعية والقضائية وتداول السلطة، فضلا عن نزاهته الشخصية، أى أنه فى تلك اللحظة حالة نموذجية لرئيس مصر، ويمكن بعد عدة سنوات ألا يكون مناسبا لهذا المنصب ويكون غيره أفضل لاعتبارات جديدة، ولأن الظروف التى اقتضت تميزه والحاجة إليه قد تغيرت. ينبغى أن ننظر بتأمل شديد إلى تصريحات قيادات إسلامية مثل الدكتور محمد عبد المقصود، الذى يبدى احترامًا شديدا للإخوان وقيادتها الحالية، وهو أحد مؤسسى الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح، والذى قال على الهواء أول أمس إنه اختار أبو الفتوح حتى لا يعيش الوطن فى هاجس استيلاء جماعة واحدة على كل السلطات، وإذا كان هذا هو "هاجس" الإسلاميين، فكيف بهواجس الآخرين، أى أن الدعاية التى يقدمها الإخوان الآن كميزة لمرشحهم بأن "وراءه جماعة قوية" هى عنصر سلبى عند الرأى العام، وليس قيمة إيجابية له كمرشح لرئاسة مصر، وإذا افترضنا نظريًا أن الإخوان نجحوا فى الفوز برئاسة الجمهورية بتجاوز نصف أصوات الناخبين، فهل يمكن أن نتصور حال البلاد سياسيًا وشعبيًا فى ظل هذا الانقسام العنيف، وهل يتحمل الشعب المصرى عامًا آخر أو عامين من المعاناة والألم واتساع رقعة البطالة والانهيار الاقتصادى ودخول مرحلة الإفلاس فى ظل هذه الفوضى والتنازع الحاد والاضطراب واستعراض العضلات السياسية فى الشوارع والميادين، وهل يمكن أن يجيب أحد بإخلاص وتجرد عمن يدفع الرأى العام المصرى فى تلك الحالة لترجيح القبول بحكم العسكر من جديد كمنقذ من الفوضى والعبث والأفق المسدود.