المحسوبية ليست مرضا ينهش فى جسد الدولة فحسب بل هي أصبحت هواء يتنفسه الشعب.....ولن يتم القضاء عليها .....لأنها أصبحت لنا حياة...بهذه الكلمات اعبر شخصيا على ما وصلت أليه المحسوبية ...فهي ليست مشكلة عارضة أو أزمة داخل جهاز الدولة بل هي طريق لكل أفراد الشعب سواء في الحصول على عمل حكومي أو خاص أو حتي في قضاء حاجاتنا اليومية ..لذا أقول أصبحت لنا مبدأ وحياة حيث لا يخفى على عاقل أن المحسوبية لها أثر هدام ومدمر في حياة الشعوب والأمم، بل هي من أكبر أسباب سقوط الدول كما أن لها تأثير مدمر على العلاقة بين أفراد المجتمع، وكذلك على اقتصاديات الأمم ومواردها والباحث في هذا المرض الخطير يكتشف من أول وهلة أن لهذا المرض جذور ضاربة في أعماق التاريخ الإنساني ...حيث روت لنا عائشة - رضي الله عنها - في قصة المرأة المخزومية حديثا عظيما أحب ذكره بنصه كما جاء في البخاري ومسلم .... أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ ، فَقَالُوا : وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالُوا : وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟! ) ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ، ثُمَّ قَالَ : ( إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ) رواه البخاري (3475) ، ومسلم (1688) . وهذ الحديث بمفرداته القليلة يوضح الفكرة الكاملة في خطر المحسوبية ونتائجها الكارثية، وبنفس الوقت يضع مثال التطبيق الصحيح ويلغي جميع الاستثناءات بما لا يترك مجالاً لمعاندٍ أو مكابر وهذا الحديث يثبت أيضا أن المحسوبية ليس مرضا حديثا أو عارضا بل بل له جذور عميقة في العصور القديمة لنشأة البشرية .... ففي عهد نوح عليه السلام كانت حجة قومه في عدم الإيمان به هو أن اتباعه من الضعفاء، فاتخذوا هذا الموقف المعارض للإيمان لأن أصحاب النفوذ والسلطة في مجتمعهم ضده !! المحسوبية كانت أيضا في الحضارة الفرعونية فكانت هناك مراسيم ملكية في مجال تجريم الرشوة والمعاقبة عليها مما يدل على وقوعها بل تفشيها في المجتمع ولولا ذلك ما صدرت تلك المراسيم وبسبب ذلك وقع الظلم على المستضعفين من عامة الشعب والحضارة الفارسية القديمة شهدت أيضا تفشي المحسوبية حتى عندما تم تطبيق قوانين صارمة في بعض الأحيان كانت قاصرة وغير قابلة للاستمرار لأن هذه القوانين كانت تطبق على جزء من المجتمع وكان جزء منها مستثنى من التطبيق رغم أن هذه القوانين كانت تبدو الأكثر عدلاً ونزاهة. المحسوبية عند بني إسرائيل أذكرهم من باب أنهم كانوا أهل شريعة سماوية يفترض بها أن تعامل الناس بنفس الدرجة من العدل إلا أن التحريف الذي أحدثوه في كتبهم والذي كان الدافع له ابتغاء مصلحة دنيوية أو تزلفًا إلى ذي سلطان جعل شرائعهم غير صالحة للوصول بالمجتمعات إلى الوضع الأمثل لهذه الشرائع وهو القضاء على مرض المحسوبية حتى العصور الإسلامية التي أعقبت عهد النبوة والخلافة الراشدة لم تسلم من مرض المحسوبية وانتشرت في معظم مجالات الحياة اليومية ومع تعاقب الزمان زادت هذه المحسوبية ورأيناها واضحة في العصر الحديث وذلك فى النواحي الاجتماعية والإدارية فكانت المحسوبية في القضاء بتفضيل أبناء القضاء على من سواهم وأيضا المحسوبية في أجهزة الأمن والشرطة. ولم تقتصر المحسوبية على القضاء والشرطة بل شمل أيضا مجالات أخري كالتعليم حتى مجال الخدمات لم يسلم منها بل تعدي الأمر ذلك كله وشمل المجال الخاص والذي يعتمد على الموهبة كالصحافة والأعلام والفن والكرة وغير ذلك واصبحت المحسوبية بالفعل ظاهرة اجتماعية شملت الجميع مما أثر على اقتصاد الدول فذكرت التقارير أن الفساد العربي بسبب المحسوبية يلتهم 300 مليار دولار سنويًّا وذلك بسب المحسوبية في مجال التعيينات والوظائف ...المحسوبية في مجال العقود والصفقات....المحسوبية في مجال منح الشهادات والدرجات العلمية وغيرها الكثير ...ومع ذلك نجحت بعض تجارب في مكافحة المحسوبية، ومنها تجارب هونغ كونغ وسنغافورة وتشيلي.. فهل ينجح العرب في محاربة المحسوبية ؟