على مدار الشهور الستة الماضية ظلت العاصمة المصرية بدون محافظ ، رغم أنها أكبر محافظة وأكثرها أهمية وخطورة وتعقيدا في مشكلاتها واحتياجاتها والأضخم في ميزانيتها بالنسبة لباقي المحافظات ، لم يعثر الرئيس أو مستشاروه على شخصية تناسب هذا المنصب طوال تلك الأشهر ، وفهمنا أنهم "يمحصون" المرشحين ، ويراجعون السير الذاتية لكل منهم بدقة كبيرة حتى يكونوا "على الفرازة" ، وأن لا تشوب المرشح شائبة ، ثم تم بحمد الله العثور على المحافظ المطلوب والمناسب وصدر القرار بتنصيب اللواء عاطف عبد الحميد محافظا للقاهرة ، وما هي إلا ساعات حتى كشف صحفيون وإعلاميون ونشطاء عن أن المحافظ الجديد سبق اتهامه في قضية كسب غير مشروع قبل ثلاث سنوات ، وتم التصالح فيها بدفعه أربعة ملايين جنيه للخروج من الورطة بعد اعترافه بحصوله على أموال ومكافآت غير قانونية نهبا من المال العام ، وإذا بالناس تضرب أخماسا في أسداد ، هل نحن مثل من قالوا "صام صام ثم أفطر على بصلة" ! ، هل ظل المنصب فارغا عن عمد لمدة ستة أشهر ثم يكون الاختيار لشخصية متهمة رسميا بالفساد ، وهل فرغت مصر من الكوادر والكفاءات والخبرات المحترمة والتي لا تشوب سيرتها شائبة لكي تتولى هذا المنصب ، شخصية اتهمها القضاء بالكسب غير المشروع ثم توسد له أمر إدارة العاصمة ، هل هذا معقول . في نفس التغيير الوزاري فوجئ الناس بقرار تغيير محافظ الاسكندرية المهندس محمد عبد الظاهر ، الشخصية التي اشتهرت مؤخرا بصدامها مع لوبي الفساد واغتصاب أراضي الدولة ، وملاحقته عمليات إهدار المال العام في الحديقة الدولية وإعلانه أن حقوق الدولة الضائعة فيها تصل إلى سبعة مليارات جنيه ، وقال أن الأراضي المنهوبة في الاسكندرية وحدها تكفي لسداد ديون مصر ، وقال : على جثتي أن يمروا بنهب أراضي الدولة ، فوجئ الناس بأن هذا المحافظ يتم تغييره وإقالته من منصبه ، لماذا ؟ لا أحد يدري ، وبطبيعة الحال لا يمكنك أن تطرد الشكوك والوساوس عن الناس عندما "تخمن" أسباب طرده من منصبه . ما حدث في حركة المحافظين الجدد أعاد تذكير الناس بمأساة عزل المستشار هشام جنينه ، الرجل الذي شهد له القاصي والداني بالنزاهة والكفاءة والشفافية ، والذي أعلن أن للدولة حقوقا ضائعة ومهدرة على خلفية فساد تصل إلى ستمائة مليار جنيه ، وبدلا من تكريمه ، إذا بهم يحولونه إلى المحاكمة وتتم إهانته وشتمه في وسائل الإعلام الموالية للسلطة والأجهزة ثم يتم إقالته من منصبه بطريقة مهينة ، واستخدام أساليب مشينة في إهانته وإلقائه في غرف حجز المجرمين وتجار المخدرات بقسم الشرطة ، والمثير للدهشة أن هشام جنينه هو الذي كشف ضياع المال العام في ممارسات اللواء عاطف عبد الحميد وحصل للدولة منه على أربعة ملايين جنيه ، فكانت النتيجة أن تم عزل جنينه ومعاقبته وحبسه ومكافأة عاطف وتنصيبه محافظا للقاهرة ؟! ، وحتى اليوم ، وبعد شهور طويلة من عزل هشام جنينه بسبب ما قالوه أنه تحدث عن الفساد بأرقام مبالغ فيها لإثارة الرأي العام ، حتى الآن ، لم يجرؤ مسئول واحد على أن يعلن للشعب المصري ما هو الرقم الصحيح للفساد لتصحيح بيانات هشام جنينه ، حتى اليوم لم ينطق رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات الجديد الذي أتى خلفا لهشام جنينه ، ولم يقل : ما هو الرقم للفساد ولماذا لم يتم التحقيق في مئات ملفات الفساد ونهب المال العام التي تمت إحالتها من الجهاز المركزي للجهات المختصة ، بينما الناس أصبحت تسمع أرقام الفساد بالمليارات في قطاعات صغيرة مثل صوامع القمح ، بما يعني أن تراث الفساد في النهاية قد يكون أضخم كثيرا مما قاله هشام جنينه . في خضم هذه الأحداث نشر رسام كاريكاتير رسما ساخرا من وحي الحالة التي نعيشها ، في صورة شخص يقف خلف قضبان السجن ، وشاب يسأل والده : هذا هو اللص الفاسد ؟ فأجابه والده : لا ، هذا من أبلغ عن اللص ؟ ، هذا محبط جدا ، ومخيف ، فليس مشكلة أن يقع خطأ في قرار أو إجراء ، ولكن المشكلة أن يجمع الناس عدة مواقف وإجراءات وقرارات فترسم صورة واضحة تعطي الانطباع بأن الأمر ليس خطأ ، وإنما هو سلوك ممنهج يطرح علامات استفهام كثيرة وخطيرة ، والأسوأ أنه يجعل الناس فاقدة الأمل في المستقبل وعلى يقين من أن الأمر يتجه من سيء إلى أسوأ ، ومن فساد إلى استباحة .