من أسوأ ما أنتجته الحرب العالمية الثانية ضررًا بالبشرية هو التضخم الشديد لجهازى المخابرات والإعلام، الجهازان كانا من الأهمية بمكان كبير أثناء اشتعال الحرب فدور المعلومة وتوقيت وصولها لمن يطلبها له قوة تعادل قوة السلاح إن لم تزد وعن الرأى العام والحرب النفسية قل ما هو أكثر.. بعد انتهاء الحرب واستقرار نتائجها على ما نعلم ..أخذ دور هذين الجهازين الخطيرين يزداد ويتسع وأخذ تطبيقات مختلفة. فى المعسكر الغربى تطورت هذه الأجهزة على نحو جيد نتيجة مناخ الحريات والشفافية وتوزيع السلطات فى المعسكر الشرقى كان تطورها بشعًا وكريهًا بما يخزى الإنسانية كلها.. وهو ما تم تقليده واستنساخه فى المنطقة العربية إلى حدود تتفوق على الأصل نفسه.. وقد كانت مصر الخمسينيات والستينيات نموذجًا فى السيطرة الواسعة للمخابرات والإعلام على كل مقدرات الوطن. ليس هذا هو موضوعنا على أية حال.. موضوعنا هو كتاب أصدره نائب رئيس جهاز مخابرات سابق.. الكتاب يشير إلى عقلية علمية متميزة وقصد معرفى متجرد.. أما مؤلف الكتاب فهو جراهام فوللر وأما جهاز المخابرات فهو(المخابرات المركزية الأمريكية) أما اسم الكتاب فهو(مستقبل الإسلام السياسى). جراهام فوللر اسم كبير فى دنيا المعلومات المخابراتية وتوظيفاتها الاستراتيجية.. فوللر 79 عامًا خريج هارفارد ومتخصص فى الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية وهو يتقن العربية وشغل مناصب دبلوماسية فى المنطقة لما يزيد على عشرين عامًا ومسماه الوظيفى تحديدًا داخل المخابرات الأمريكية: الرئيس السابق لقسم البحوث والتخطيط (إن أى سى) وهو القسم المسئول عن التنبؤات المستقبلية بعيدة المدى. جراهام فوللر كان قد نشر مقالة رائعة عام 2008 فى مجلة فورين بوليسى الشهيرة بعنوان(عالم بلا إسلام) صدرت بعد ذلك فى كتاب انتهى فيه إلى أن الشرق كان سيكون أكثر تشوهًا وتعقيدًا بدون الإسلام.. المقال مهم ومنصف وهو يعتمد على طريقة بحثية جميلة اسمها (البناء الافتراضى للتاريخ).. وأعتقد أن الراحل شاكر نابلسى العلمانى العتيد كتب كتابًا بهذا المعنى عنوانه (لو لم يظهر الإسلام ما حال العرب الآن؟) الطريف أن فوللر كان أكثر إنصافًا للإسلام والمسلمين من شاكر نابلسى. العام الماضى نشر فوللر 5 توقعات تخص الشرق الأوسط تتعلق بداعش وإيرانوتركيا وطالبان وروسيا وهى جديرة بالقراءة والفهم.. إذ يرى أن داعش إلى زوال وسوف تتداعى سيطرتها ونفوذها فى العراق والشام ولن يكون ذلك بسب قوة التحالف الذى بنته واشنطن!! ولكن لأنه كيان غير قابل للحياة كدولة فليس لديه إيديولوجية متماسكة وليس لديه القدرة على بناء أى مؤسسات سياسية واجتماعية ولا القدرة على التعامل مع الخدمات اللوجيستية المفصلة للحكم .. الثانى هو تزايد دور إيران كعنصر فاعل فى المنطقة وهو يرى أن ذلك ضرورى ومهم للنظام الإقليمى ويصف إيرانوتركيا اليوم بأنهما الدولتان الوحيدتان اللتان لديهما حكومات حقيقية وحكم حقيقى فى المنطقة _على الرغم من كل أخطائهم_ يقوم على أساس نوع من الشرعية الشعبية.. والديمقراطية فى هاتين الدولتين تتبنى العديد من تطلعات شعوبها بطرق لا يستطيعها أى زعيم عربى آخر فى المنطقة.. وهو يرى أن دول الخليج ستضطر لاستيعاب نفسها مع واقع التطبيع مع إيران التى لديها رؤية واضحة لمنطقة الشرق الأوسط تتمتع فيها بسيادة حقيقية.. المدهش أنه توقع وقوع الرئيس التركى أردوغان فى مشكلة مع القضاء والجيش والإدارة.. وهو ما حدث بالفعل بعدها بسنة ونصف(15/7/2016).. ذكر أيضًا أن روسيا سوف تلعب دوراً رئيسياً فى الترتيبات الدبلوماسية فى الشرق الأوسط ومن الضرورى أن يجرى قبول وتشجيع هذا الدور الروسى.. ويختتم فولر توقعاته بأفغانستان وطالبان قائلاً: بعد 13 عاماً من الحرب فى أفغانستان فشلت الولاياتالمتحدة فى القضاء على طالبان كعامل قوة رئيسى فى معادلة السلطة الوطنية وهو ما سيتيح لطالبان أن تتقدم نحو اكتساب المزيد من السلطة إذ يرى أن طالبان أكثر بكثير من(حركة إسلامية) ويجب النظر إليها أنها تعبير عن سلطة البشتون أحد أهم القبائل والقوميات داخل أفغانستان. فوللر له كتب مهمة عن تركياوإيران والأكراد والتفرقة العنصرية وفكرة الديمقراطية.. إلا أن كتابه الأهم كما ذكرنا أولاً لدى كثير من الباحثين هو(مستقبل الإسلام السياسى) الذى صدر عام 2003م .. وترجمه من عامين مركز اللغات الأجنبية والترجمة بجامعة القاهرة.. وكتب مقدمته أ.د محمد عثمان الخشت مدير المركز الذى قال(إن التيار الإسلامى يمكنه أن يقدم نموذجًا عصريًا يقرب الإسلام من العالم ويقرب العالم من الإسلام ويمثل بداية لتحقيق حالة جديدة بين الإسلام و المعاصرة، مشيرًا إلى أن الإسلام يؤمن بالتطور والتغيير.. التحدى الذى يواجه مستقبل الإسلام السياسى الآن هو كيفية جعل القيم الإسلامية ذات صلة وقابلة للتطبيق على القضايا الاجتماعية والاقتصادية المعقدة فى الوقت الحاضر وكذلك الإسهام فى المحافظة على تماسك النسيج الاجتماعى).. تجاوز فوللر فى هذا الكتاب بعقليته البحثية النافذة التصور التقليدى فى الكتابات الغربية عن الإسلام والمسلمين ونظر إلى الإسلام من زاوية أكثر موضوعية فرفض ربطه بالإرهاب وأكد أن الإسلام ينبذ العنف واللجوء إليه كوسيلة لحل المشكلات وأن ما ينسب إليه من خلال فكرة الجهاد وهى بالفعل فكرة أصيلة فى الإسلام لا يرتبط سوى بالدفاع عن النفس وتحرير الشعوب.. ويشير الكتاب إلى التجارب الإسلامية فى العصر الحديث حتى تأليف الكتاب سنة 2003م (إيران والسودان وأفغانستان) وقال إنها لم تتخذ الإسلام الصحيح مرجعية حقيقية بل نتجت هذه الحكومات كرد فعل على الماضى السلطوى لتلك البلدان.. وهو كلام دقيق وصحيح تمامًا.. أيضا سجل إعجابه المبكر بالنموذج التركى الذى يمثل نجاحًا لفكرة الإصلاح الإسلامى ويرى أن هذه التجربة تحتاج لوقت أطول للحكم عليها كاتجاه إسلامى ناجح .. كى تأخذ إجابات صحيحة عليك أن تسال أسئلة صحيحة. وأهم سؤال يتعلق بالظاهرة الأهم فى الشرق العربى اليوم وأمس وكل يوم وفى كل الأوقات وهى قصة إصلاح الشرق واستعادته لقيمته العالمية وقيمة القيم التى تحملها حضارته.. والظاهرة التى أقصدها وقصدها الكاتب هى ظاهرة الإسلام السياسى.. وأكرر أن تسمية (الإسلام السياسى)غير علمية وغير موضوعية وغير منهجية والتسمية الصحيحة هى التيار السياسى الإسلامى.. التسمية الأولى صكها ميشيل فوكو حين زار إيران سنة 1978 بتكليف من جريدة اللموند وألف كتابًا عن الثورة الإيرانية بعنوان ( الروحانية السياسية) والتسمية كما ترون تائهة وحائرة وليس لها ملمح واضح وصدى مفهوم لدى قراء العربية.. فما كان من الأستاذ هيكل إلا اقتطافها فورًا وتغييرها إلى(الإسلام السياسي).. وانتشرت بخفة شديدة لدى أولاد الحلال وغير الحلال . السؤال الرئيسى كما قلنا الذى يحاول فوللر البحث عن إجابته هو(هل يمثل التيار السياسى الإسلامى آخر معاقل المقاومة للحضارة الإسلامية أمام مد العولمة الغربية ذات الطابع الأمريكي؟) .. كلام فى سويداء المعنى.. يبدأ الرجل إجابته بتتبع بدايات الحركات الإسلامية وتطورها وإمكانياتها فى إحداث تغيير حقيقى ويتناول الأدوار المتعددة التى قام بها التيار السياسى الاسلامى ويؤكد أن جميع هذه الأدوار ليست واضحة للغرب بما يكفى بالرغم من أن هذه الأدوار المتعددة هى التى سُتبقى للتيار السياسى الإسلامى دوراً رئيسياً فى الواقع القائم فالثقافة السياسية فى العالم الإسلامى اليوم تركز على عدد من القضايا الأساسية كالعدالة الاجتماعية، والحاجة لبوصلة أخلاقية وحفظ الحضارة الإسلامية وإعادة بناء قوة وكرامة العالم الإسلام، والمنعة ضد تهديدات القوى الخارجية ومشروعية الحكومات والرفاه الاجتماعى والعدالة الاقتصادية وأهمية وجود حكومة نظيفة وفعالة.. وهذه كلها تمثل قلب خطاب الحركات الإسلامية. ويشير (فولر) إلى أن الصراع بين المتطرفين الأصوليين والمعتدلين سيكون محكًا كبيرًا للاثنين وبالرغم من أن الأصولية ليست بالشىء الجديد إلا أن الضغوط السلبية محليًا وعالميًا على المجتمعات المسلمة تصب فى صالح التطرف والتشدد.. ويرى فيها الناس محاولة جريئة لتغيير واقع بائس. لكن هل الإسلام أو الانتماء للحركات الإسلامية ينتج بالضرورة أفراداً يميلون للعنف؟ أم أن المسألة تخضع لطبائع الأفراد والنزعات الشخصية؟ سؤال موضوعى وعميق وكانت إجابة الرجل: أما نزوع الأفراد نحو العنف فذاك يعود للفرد نفسه وأسلوبه فى التغيير مع الأخذ فى الاعتبار أن الظرف المعيشى فى الشرق الأوسط والعالم الإسلامى ككل يجعل الفرد معبأ ابتداء ومشحونًا ومستفزًا قبل أى تعبئةٍ أيدولوجية.. الكتاب مهم ومليء بالرؤى الموضوعية المتجردة .. على أن أكثر ما ذكره الكاتب أهمية وخطورة فى كل الكتاب هو مقولته التى تكتب بحروف من ذهب ليس لأنها شديدة الدقة والإحكام فقط ولكنها لأنها قيلت قبل حدوثها بعشر سنوات وهى مقوله: ( أن المحك الأساسى لاختبار الإسلاميين هو فخ السلطة التى إن فشلوا فيها كانت السم الذى يميتهم ويستأصلهم.. إذ لا شىء يمكن أن يظهر الإسلاميين بأسوأ صورة من تجربة فاشلة فى الحكم..). مصيرك بات يلمسه الأدانى ** وسار حديثه بين الأقاصى وأنت كما عهدتك لا تبالى ** بغير مظاهر العبث الرخاص.. دعونا نستمتع بصوت السكوت.