تعصف بقلبى ذكريات أيام الطفولة فى بيت جدتى لأبى ولقائنا مع الأعمام والعمات، أذكر تلك المشاكسات اللطيفة مع أبناء وبنات العم، واجتماعنا فى الأعياد وسعادتنا التى تغمر قلوبنا حين تحلو ساعات السمر والسهر على الروف الذى يسعنا جميعًا تحت ضوء القمر. وكان أبى، رحمه الله، يشترى الحلويات والبمب والصواريخ والألعاب الصغيرة ويضعها لنا مع العيدية من الأوراق النقدية الجديدة والعملات المعدنية اللامعة فى كيس هدايا ويدسها تحت المخدة يوم الوقفة ونحن نيام، لنستيقظ صباحًا يبحث كل منا عن «عمو العيد» الذى يأتى إلينا فى الأحلام بهداياه الجميلة لنصحو ونجد الحلم يتحقق.. وصرنا لفترة طويلة نصدق هذه الحكاية عن «عمو العيد» الذى يحقق أحلامنا حتى كبرنا وعرفنا السر وصرنا ننفذه مع أولادنا فى ليلة العيد. العيلة ولمة العيد إذ كان مجرد أن يهل علينا رمضان بنفحاته الكريمة وليالى التراويح وروائح الذكر الطيبة فى التهجد وصلاة الفجر، ترتب أمى مع خالتى، التى تسكن فى الشقة المجاورة لنا فى عمارتنا بحى مصر الجديدة، على موعد صنع الكحك، حيث كانت له مراسم ننتظرها بشغف من أول شهر رمضان، فنجتمع فى جو من البهجة لعمل كحك العيد، تعجن أمى وخالتى الكحك ونبدأ مع إخوتى وبنات الخالة فى نقش الكحك ورصه فى الصاجات السوداء لتحملها على رأسيهما «اعتدال وأحلام»، وهما شابتان تقيمان معنا تساعدان أمى وخالتى فى شؤون البيت، متوجهتين نحو الفرن فى آخر الشارع للتسوية، ونقضى الليل بطوله فى نقش الكحك ومشاوير التسوية، فهى ليلة لا ينام فيها أحد، حتى تخرج الصاجات من الفرن، أفرح حينما تكتب أمى اسمى على أحد الصاجات حتى لا تختلط بصاجات الآخرين، فكان كل صاج يكتب باسم أحد أفراد العائلة، ثم تختبر أمى المخبوزات وتتأكد أن الكعك ناعم، تفرفت الكعكة بأصابعها فيطمئن قلبها وتقول: «يسلم فم من سيأكله»، ثم نرص الكحك بعد أن يبرد فى علب كرتونية ونرش عليه السكر الناعم، وفى اليوم التالى نعيد مراسم البهجة ذاتها مع البتيفور والغُريبة وبسكوت النشادر. وتمر الأعوام ونكبر ونتزوج وتتوسع العائلات ويصبح لدينا أطفال وتتغير مراسم عمل الكحك، فترحل «اعتدال وأحلام» وتختفى عادة الصاجات السوداء من حى مصر الجديدة، فنجتمع فى بيت أمى مع أطفالنا، وتتم تسوية الكحك فى فرن البوتاجاز الكبير فى مطبخ أمى، وربما تغيرت مراسم عمل الكحك ولكن لم تتغير عادات لمة العيلة وبهجة العيد. ويتزامن العيد هذا العام مع عيد شم النسيم، حيث يأتى شم النسيم فى اليومين اللذين يسبقان العيد، أى فى الأيام الأخيرة من رمضان، مما سيفقدنى أنا شخصيا متعة أكل الرنجة والفسيخ والبصل الأخضر فى الصيام، وكنا نسهر فى شم النسيم طوال الليل فى مرحلة الشباب على حفلة عبدالحليم حافظ فى التليفزيون، وفى هذه الليلة كان يتألق حليم بأغنية جديدة ويبدع أيضًا فريد الأطرش، وكان الاثنان يتنافسان فى أغنيتيهما اللتين أعدياها خصيصًا لعيد الربيع، ورغم خروج الناس للاحتفال فى الحدائق والمتنزهات فإننى كنت أحلم دومًا بإقامة مهرجانات مفتوحة فى الشوارع وعلى ضفاف النيل تشبه احتفالات ديو نيسيوس، إله الخمر والنشوة عند اليونان، وهو الإله الذى يشبه من كل الوجوه أزوريس فى ثقافتنا المصرية. ثم تمر أعوام أخرى ويصبح عمل الكحك عملًا شاقًا علينا ولا أدرى لماذا لم يعد يثير شغف الشباب كما كان يثير شغفنا على أيامنا؟، فأصبحنا نلجأ إلى شرائه جاهزًا من المحلات، وعلى الرغم من غياب أمى ثم أبى، فإن لمة العيلة ظلت عادة وتقليدًا لا يتغير، فلدى يقين أن حضن العيلة أقوى ضمان ضد الأمراض النفسية التى تصيب شبابنا فى هذا العصر الحديث نتيجة ثورة التكنولوجيا وتطور الموبايلات المدهش، حيث أدى سحرها والإدمان عليها إلى الاغتراب عن الأهل، رغم كونهم يعيشون فى بيت واحد، وربما يتقاسمون غرفة واحدة. والتكنولوجيا أمر لا مفر منه وستكون موجودة إلى الأبد، لذا لن يكون هناك أفضل من المواسم والأعياد والمناسبات العائلية المهمة كعيد الفطر مثلًا للحرص على التلاقى الحقيقى بعيدًا عن التلاقى الافتراضى، ولذلك فمن المهم للغاية التخلى مؤقتًا عن التكنولوجيا، وقضاء بعض الوقت الجيد مع العائلة، وتكوين بعض الذكريات التى لا تُنسى، لأن الساعة تدق والعمر لا يعود إلى الوراء أبدًا.