كشفت بيانات أمريكية مختلفة أن نحو 5 ملايين رجل وسيدة خرجوا تباعًا من سوق العمل الأمريكية بعد بدء إغلاقات «كورونا»، ولا يريدون العودة للعمل مرة أخرى، رغم وجود فرص وارتفاع بالأجور. كان الحديث عن نقص العمالة ظهر فى عدة دول كبرى، على رأسها الولاياتالمتحدة، مع بدايات كورونا فى مارس 2020.. لقد كان خافتا فى البداية، وكان النقص أوضح ما يكون فى قطاعى التعليم والصحة، اللذين وقع على العاملين بهما أعباء كبيرة إضافية فجأة، وزاد الطلب على مثل هذا النوع من الخدمات جراء تفشى الوباء، لكن حديث نقص العمالة امتد لاحقًا إلى قطاعات أوسع، وقفز إلى الصدارة مع بدء تعافى الاقتصاد، وزيادة الطلب فجأة ومحاولة منتجى السلع ومقدمى الخدمات التجاوب مع ذلك بزيادة الإنتاج، ولكن ظهر وجود عمالة تركت العمل مع الإغلاقات ولا ترغب فى أن تعود.. وأسرع تفسير كان أن حزم التحفيز وتعويضات البطالة وأموال حماية الأمهات والأطفال تقف وراء ذلك، حيث يخاف العامل من فقدان التعويضات السخية لدى العودة للعمل. استمر الأمر كذلك فترة، لكن تزايد الأعداد غير المتحمسة للرجوع، رغم قرب إنهاء التحفيز، بل انتهاؤه فعلًا فى عدد أكبر من الولايات، جعل مزيدًا من الأسئلة الحائرة يصعد للسطح: هل هناك أسباب أخرى أو أعمق؟ لماذا يرفض الملايين العمل رغم شدة الطلب وإعلان شركات عديدة استعدادها لدفع أجور أعلى؟، ولماذا لم تنحسر الظاهرة مع إقرار بايدن حدا أدنى للأجور فى الوظائف الفيدرالية هو 15 دولارا فى الساعة، أى بزيادة نحو 35%؟، كيف اتسع نطاق الظاهرة رغم أن أى جهة نقابية أو سياسية لم تدع لمثل ذلك؟.. وأخيرا، هل ستشهد 2022 فكًا للغز وإنهاء لتلك الحالة غير الطبيعية؟!. منذ 3 أعوام، بدأ الدكتور راجى أسعد- الأستاذ فى جامعة مينيسوتا بالولاياتالمتحدة وخبير أسواق العمل الدولى البارز، والمسؤول عن مسح سوق العمل المصرية- يلاحظ ظاهرة جديدة بمصر سماها «العمالة المحبطة». يقول التعريف الكلاسيكى للبطالة، إن المتبطل هو ذلك القادر على العمل والراغب فيه ويسعى إليه عند مستويات الأجر السائدة ولا يجده، لكن قوة العمل المحبطة تلك يتوفر فيها كل الأركان سوى محدد «تسعى إليه»، أى أنها لا تبحث.. فهل يمكن أن ينطبق ذلك على عمال الولاياتالمتحدة غير الراغبين فى العودة للعمل حتى الآن؟. «راجى» أوضح أن أبرز سبب لعدم العودة هو التقدم فى السن، وعدم القدرة على تحمل الأعمال الشاقة مرة أخرى، كما أن الأمهات لا يزلن يردن رعاية أطفالهن لارتباك عمليات العودة للحضانات والمدارس، لكنه يترك الباب مفتوحًا لتفسيرات أخرى. عالج الإعلام الأمريكى الظاهرة طوال أشهر على أنها مجرد عَرَض بسيط، وكان يشير إليها كفقرة فى نهاية أو وسط تقارير تتحدث عن مشاكل سلاسل التوريد، أو مستوى الاستهلاك العائلى، أو أثر رفع الأجور على التكاليف والأسعار، غير أن «واشنطن بوست» قدمت تشريحًا ضافيًا للحالة فى 4 سبتمبر 2021. وخلال تحقيق يحمل عنوان: «لماذا يوجد فى أمريكا 8.4 مليون عاطل عن العمل عندما تكون هناك 10 ملايين فرصة عمل؟»، أشارت إلى أسباب مثل أن العمالة التى لا تريد العودة أعادت تقييم موقفها خلال عزلة «كورونا»، ووسعت نظرتها إلى معنى الفرصة فى سوق العمل، وبدأت تهتم أكثر بالعمل من المنزل أو فى مكان قريب أو بمواقع عمل أكثر مرونة أو أكثر جدوى، وفى المقابل بدأ أصحاب الأعمال يفكرون فى حلول من خلال الأتمتة وإعادة تشكيل آليات العمل وسلاسل التوريد. وكشفت الصحيفة أن 22 ولاية بدأت بالفعل إنهاء مزايا التحفيز، ومع ذلك لم يعد العمال للعمل، ونوهت إلى وجود 4.9 مليون من قوة العمل بلا عمل ولا يبحثون عن عمل أكثر مما كان عليه الأمر قبل الوباء، وفى وقت لاحق صوبت الصحيفة عدد فرص العمل القائمة، وأنقصتها بنحو 1.7 مليون فرصة بما يجعل العرض يمثل الطلب تقريبا، لكن حتى مع ذلك فهذا يعنى أن الأزمة حقيقية. وتحدث محللون عن أثر ارتفاع معدلات الشيخوخة وتراجع حجم قوة العمل ذاتها، وعن أثر قيود الهجرة التى تضاعفت فى عهد ترامب على بروز الظاهرة، وميل الشباب للعمل لدى الذات، ولكن الغريب أنه بالبحث على موقع اتحاد العمال الامريكى لا تجد أى إشارة إلى هذا الأمر، ورغم أن لغة خطاب الاتحاد أصبحت ذات صبغة يسارية واضحة مع صعود تيار برنى ساندرز فى السياسة الأمريكية، إلا أن الاتحاد المعنى بالتصدى لجشع الشركات لا يدين أى طرف من أطراف أصحاب الأعمال باستثناء العاملين فى «وول ستريت» مشتركا فى ذلك مع ليبراليين كبار معروفين عبر العالم. ويضيف الاتحاد أبعادا أخرى من جهة الذين خسروا أعمالهم ويريدون العودة ولم يتمكنوا حتى الآن، ويقول إن النساء فى أمريكا خسرن مليون وظيفة من فبراير إلى ديسمبر2020، أكثر من الرجال، وأن المرأة العاملة الأمريكية تخسر 406 آلاف دولار طوال عمرها بسبب التمييز فى الأجر، مع كون 42% من النساء العاملات بأمريكا هن العائل الوحيد للأسرة.. فهل اقترب اللغز من الحل؟. تبدو الإجابة لا. إلى ذلك، فإن الذين تحدثوا عن التكنولوجيا وعن التأكل الشديد لفرص وأجور ضعيفى المهارات أو التعليم نسوا أن العمال هم الذين يشغلون فى النهاية أى مصنع أو متجر أو مستشفى أو مزرعة أو كذا مهما كان تعقيد ما يستخدمه من تكنولوجيات.. والملاحظ أن أعدادا ضخمة من العمالة التى توصف بأنها غير ماهرة، اكتسبت-وعلى استعداد أن تكتسب مع الوقت- مهارات أكثر بفضل شغفها بالتكنولوجيا، ولكن لم يُعن أحد بقياس ذاك، ولم يشعر العمال أنفسهم بالتطور الذى طرأ عليهم إلا مع عزلة كورونا.