حول منطقة القاهرة التاريخية، حيث يقع عدد من الجبانات التراثية فيما يعرف ب«التجمع الجنائزى»، المحيط بصحراء المماليك، وإذ يهدف مقترح حكومى لفتح محاور مرورية جديدة لتوسعة أحد الطرق الرئيسية بالعاصمة المكتظة بالسكان وبغية تخفيف حركة المرور بها، أُثير جدل بوسط القاهرة، تناولته ندوة ومعرض بعنوان: «العمارة الجنائزية فى مصر المعاصرة.. خطر يواجه جبانات القاهرة التاريخية»، مساء أمس الأول، بمكتبة القاهرة الكبرى، بمنطقة الزمالك، وسط حضور كبير من الأكاديميين والمعنيين بحفظ التراث. الندوة شهدت نقاشات ومشادات بين المعماريين المعارضين لمخطط إزالة الجبانات والذين قدموا حلولًا تخطيطية ومعمارية بديلة عن المقترح الحكومى، كمحاولة لإنقاذ الجبانات التاريخية من الهدم بوقوعها فى طى النسيان من جانب، وأحد الاستشاريين القائمين على تصميم محاور توسعة القاهرة من جانب آخر. نشطاء جمعيات حفظ التراث قرروا، قبل 6 أشهر، تدشين مبادرة مجتمعية أطلقوا عليها: «أنقذوا جبانات القاهرة التاريخية»، ضمت أساتذة أقسام العمارة بكليات الهندسة والفنون الجميلة ببعض الجامعات، وبعض الشخصيات العامة، إذ عملوا على إعداد محتوى أكاديمى متعدد الوجهات، مزودين الحملة بالصور والرسومات التوضيحية لهذه الأماكن ل«إبراز قيمتها التاريخية والفنية الفريدة»، كونها جزءا من الهوية الفكرية المصرية وامتدادًا للحضارة المصرية التى تضرب بجذورها قديمًا من جانب، وتقديم حلول معمارية للمسؤولين من جانب آخر. وفق الدكتورة جليلة القاضى، عضو الحملة وأستاذ التخطيط العمرانى المتفرغ بجامعات فرنسا، فإن التجمع الجنائزى الواقع على مساحة 500 فدان والمنطقة السكنية المحيطة بجبانات صحراء المماليك، ذات القيمة التاريخية والثقافية، ستكون بصدد مواجهة جرافات الهدم، كجبانة «آل طبا طبا» الأثر الوحيد المتبقى من الحقبة الإخشيدية، وحيث بقايا أطلال قناة ابن طولون الأسبق تاريخيًا من سور مجرى العيون، الذى كان يمد قلعة صلاح الدين الأيوبى بالمياه، وجبانة عائلة درامالى ذات المقابر الرخامية الغنية بالزخارف الإسلامية التى يزيد عمرها عن 150 عاما، فضلًا عن عدد من الشواهد السابقة للقاهرة ب3 قرون ذات القيمة الرمزية كمدافن الصحابة وأولياء الله الصالحين والصوفية، لافتة إلى أن بعض هذه الجبانات لها جذور تضرب بجذورها للطقوس الجنائزية للمصريين القدماء. من جهتها، قالت علياء ناصر، مدير التوثيق بالمؤسسة المصرية لإنقاذ التراث، إن هذا التجمع الجنائزى الذى يعرف ب«مدينة الموتى» يعد بمثابة وثيقة حضارية للهوية المصرية، وإن معظم هذه الجبانات تربطها قيمة حضارية تضرب بجذورها إلى الحقبة الفرعونية، مدللة ببعض الأدلة الأكاديمية المدعومة باللقطات الفوتوغرافية التى تربط الاحتفالات والطقوس الفرعونية كمواكب الموتى، والنحيب المرتبط برثائهم، والمأدبة وغيرها لارتباطها معماريًا وثقافيًا بالطقوس الجنائزية للمصرى القديم، لافتة إلى أنه على الرغم من تواجد معظم تلك الشواهد وأحواشها لمدة زمنية تجاوزت ال150 عاما، إلا أن المسجل منها «كأثر مصرى» عدد محدود، وهو ما يعد «ثغرة» تبيح هدمها رغم قيمتها التراثية، ورغم إدراجها ضمن القاهرة التاريخية على قائمة اليونسكو للتراث العالمى. وندد الدكتور حسام إسماعيل، أستاذ التاريخ بكلية الآثار جامعة عين شمس، بهدم هذا «الكنز التراثى والمعمارى» تحت وطأة «المنفعة العامة»، ودعا لاستغلال هذا التجمع الجنائزى وتحويله إلى مزار تراثى كما يحدث فى فرنسا التى تحول مقابرها إلى مزارات سياحية، فيما استشهد الدكتور مصطفى الصادق، الناشط فى مجال حفظ التراث، بشواهد جبانات الأعيان التى تحويها تلك المنطقة التى تعد سجلًا توثيقيًا للقاهرة التاريخية، لا يجب المساس به، حيث تحوى هذه الجبانات شواهد قبور لقادة عسكريين مصريين يزيد عمرها عن 325 عاما. هانى عيسى الفقى، الذى صمم توسعة طريق مصر الجديدة، وأحد المسؤولين عن مخطط التوسعة، أشار إلى أن القاهرة مدينة قديمة ومكتظة بالسكان ولديها خيارات محدودة للمخططين. ويسعى التخطيط العمرانى إلى تقليل الازدحام المرورى. ودافع عن المخطط الحكومى، مؤكدًا أن توسعة محاور القاهرة تهدف إلى «المنفعة العامة»، وتخفيف الحركة المرورية المكتظة بها، لافتًا إلى عدم المساس بالجبانات الموثقة، لكن كلمتى «المنفعة العامة» و«المدافن الموثقة» كانت بمثابة الشرار الذى أوقد فتيل الجدل داخل الندوة، ليوضح الحضور أن هناك حلولًا معمارية بديلة عن الهدم استعرضها بعض النشطاء بالخرائط، لافتين إلى أن معظم الجبانات غير موثقة. ورغم توضيح عدد من المتحدثين أهمية المحافظة على مناطق الجبانات التى تحمل جثامين عدد من أولياء الله الصالحين، وتحتوى على معمار فنى فريد من نوعه كما أوضح المعمارى حسام إسماعيل، وبأن على المعماريين الاهتمام بالمنطقة ككل وتسجيلها كتراث حضارى، وعدم المساس بها ولا بالمناطق السكنية المحيطة بها، ومحاولة تقديم عدد من الحلول البديلة للاستمرار فى التوسع بالطرق مع الحفاظ على الجبانات، من قبله طارق المرى، استمر الفقى بالتأكيد على أنه لن يتم هدم أى من الآثار المسجلة، لكنه لابد من تطوير المنطقة و«هدم العشوائيات»، الأمر الذى أثار غضب بعض من الحضور. وفى الختام أوضح القائمون على الحملة أنه مؤخرًا تم «هدم وشطب نحو 18 أثرًا كانت ضمن قائمة التراث»، كما نددوا بهدم العديد من المناطق التراثية غير الموثقة، لافتين إلى أن الحملة تقدمت بعريضة إلى الرئيس عبدالفتاح السيسى، تضمنت حلولًا بديلة، فضلًا عن عمل أعضائها على «التفاوض مع متخذى القرار، فى محاولة لوقف إجراءات الهدم والإزالة قبل الشروع فى اللجوء إلى القضاء»، ومن المتوقع أن تشمل مخططات الهدم أيضًا «بعض المناطق السكنية المتاخمة للمقابر، كالسيدة عائشة، ومنطقة عرب اليسار، بالإضافة لمنطقة الحطابة المحيطة بقلعة صلاح الدين جنوبالقاهرة».