من المشاهد المألوفة عند دخول محطة وقود أن يلتف حول سيارتك رهط من الشباب، واحد يملأ الخزان، والثانى يمسح الزجاج، والثالث يرفع غطاء السيارة ويمثّل أنه يقوم بفحص الماء والزيت.. كل هذا طبعاً من أجل البقشيش. هذا المنظر يكسر القلب، خاصة أننى أعلم أنهم مضطرون لاحتمال المهانة والمعاملة الفظة التى يتعرضون لها على يد الزبائن الذين يستثقلون تلكؤهم وتحلقهم حول السيارة.. لكن التعاطف يحل محل الضيق عندما تعرف أنهم يعملون بدون أجر عند صاحب المحطة الذى لا يترك لهم خياراً سوى قبول المهانة أو الموت جوعاً. وعندما تهم بالتحرك بالسيارة يتقدم منك دفعة أخرى من الشباب، ولا يمكن لمثلى أن يخطئ أن كلاً منهم قد سهر يكوى القميص واقترض ربطة العنق حتى يكون مظهره عند مستوى توقعات الرجل السادى صاحب العمل الذى يطلقهم فى محطات الوقود للترويج لمشروعه الذى لا يخرج عن «تايم شير» أو برامج حج وعمرة أو رحلات سياحية، وذلك دون أن يدفع لهم أى راتب، وكله بالعمولة.. بمعنى أن الشاب الذى يعتصم بالحياء ويرفض ممارسة الغتاتة على الناس فإنه فى الغالب سيبيت بدون عشاء. يتشابه المثالان السابقان مع القصة الشهيرة عن الرجل الذى سقطت به الطائرة ووجد نفسه فى جزيرة الماهونجا.. سأحكى لكم حكايته: بعد أن سقطت الطائرة تلفت الرجل حوله فأبصر قوماً يرتدون الريش ويرقصون- وهو فى وسطهم - على قرع الطبول، وبعد أن حاصروه حملوه إلى شيخ القبيلة ليقضى فى أمره. قال له شيخ القبيلة: لقد اجترأت على أرضنا وتواجدت داخل أملاكنا الخاصة، ولهذا سوف نعاقبك.. عليك أن تختار بين أمرين: إما هونجا أو الموت. ارتعدت فرائص الرجل من الرعب، لكنه رغم خطورة الموقف رأى أن هونجا مهما بلغت قسوتها فلاشك أنها ستكون أرحم من الموت، فقال باكياً: لقد اخترت هونجا. كانت نتيجة هذا الاختيار أنهم أخذوه ففسقوا به ثم تركوه على الشاطئ محطماً وابتعدوا. لم يهدأ الرجل ولم يستطع أن ينسى ما حدث، وبات مصمماً على الانتقام. عاد إليهم فى اليوم التالى وطاح فيهم بعصاه فجندل نفراً منهم، لكنهم تكاثروا عليه وأخضعوه ثم حملوه إلى الزعيم مثلما فعلوا فى اليوم السابق. لم يفعل الزعيم سوى أن كرر عليه الاتهام: لقد اجترأت على أرضنا وتواجدت داخل أملاكنا الخاصة، عليك أن تختار.. هونجا أو الموت؟ فى هذه المرة كان اختياره حاسماً وقرر أن يموت بطلاً ولا يقبل العيش مع العار. قال لهم بعلو الصوت: لقد اخترت الموت. هنا أعلن شيخ القبيلة حكمه البات: إذن.. هونجا حتى الموت!. هل يمكن فى زمن قريب أن يحلم الشباب بخيارات أخرى بالنسبة للمستقبل تخرج عن هونجا أو هونجا حتى الموت؟!
