الإنسان عدو لما يجهله، ولا يعادى المصريون شيئاً فى الوقت الحالى، بقدر عدائهم للخصخصة، ليست لأنها فى حد ذاتها سيئة، وإنما لأننا نشأنا لسنوات طويلة، خصوصاً بعد ثورة يوليو 52، على أن القطاع الخاص رجس من عمل الشيطان، وأن القطاع العام هو الفردوس الموعود، وهناك سبب آخر لهذه العداوة غير المبررة، هو أن أحداً لم يتطوع ليشرح للناس، بشكل مقنع، حقيقة الخصخصة كعملية لا مفر منها، ثم عوائدها الإيجابية على الفرد والدولة معاً! ولا أتمنى شيئاً الآن، بقدر ما أتمنى أن يتسلح القارئ بقليل من الصبر، لنرى معاً كيف كانت أول عملية خصخصة فى البلد. وكيف توزعت ثمارها فى كل بيت، ثم انتقلت من جيل إلى جيل، حتى وصل بعض صداها إلينا! فالدائرة السنية فى زمن الخديو إسماعيل كانت تضم الأرض التى يملكها، وكانت مساحتها 600 ألف فدان، وجاء وقت كان على هذه الأرض أن تنتقل منه إلى الحكومة، لديون تراكمت عليه، ومع الحكومة تحولت الأرض طبعاً إلى قطاع عام، وزادت خسائرها عاماً بعد عام، وظلت تنتقل من خسارة فادحة فى عام، إلى خسارة أخرى فاضحة فى العام الذى يليه، ولم يكن هناك مفر من بيعها، وأعلنت الحكومة عن البيع، ونشأ البنك الأهلى فى الأصل كشركة مساهمة بين مساهمين مصريين أغلبهم يهود، ومساهمين بلجيك، وآخرين إنجليز، من أجل هذا الهدف، وكان كل عمدة فى الأرياف يأتى بما تحت البلاطة فى بيته، هو وغيره، على امتداد الأقاليم، للفوز بنصيب من الستمائة ألف فدان، وقد بيعت الأرض فعلاً، وكانت هذه هى أول عملية خصخصة فى مصر، وكانت أيضاً، وهذا هو الأهم، بداية بزوغ الطبقة المتوسطة فى بلدنا، وهى الطبقة التى استطاعت من خلال تلك العملية، وما نشأ عنها فى حركة البيع والشراء من نمو، أن ترسل أبناءها ليتعلموا فى باريس ولندن وعواصم العالم، فعاد الأبناء فى بدايات القرن الماضى ليقودوا أكبر حركة تنوير فى تاريخنا الحديث. ولم تنتقل الأرض إلى خارج الحدود، وهو ما يتخوف منه حالياً كثيرون، كلما جاءت سيرة لأى خصخصة من أى نوع، ولا خرج أحد وقتها ليقول إن هناك مؤامرة وراء العملية، ولا راح كل واحد يتحسس رأسه، كما يحدث فى العادة، كلما جاء كلام عن نقل مشروع إلى ملكية القطاع الخاص، بعد أن يكون قد تعرض للنهب المنظم طويلاً تحت لافتة القطاع العام. الخصخصة ليست شراً كما يتخيلها المصريون، وإنما ارتباك الحكومة وهى تمارسها، هو الذى جعل سيرتها مخيفة للغالبية من الناس، على عكس حقيقتها تماماً، فلا يمكن إقالة اقتصادنا من عثرته، إلا بها، بشرط أن تتسم بالشفافية، والأمانة مع الشعب، الذى يملك كل شىء على أرض وطنه، وبشرط أن يقال لهذا الشعب، كيف بيعت كل شركة، وأين ذهب عائد بيعها، وما هو الفارق بين حالها قبل البيع، وبعده! اسألوا الدكتور يوسف بطرس، وزير المالية، عن الفارق بين عائد شركة الأهرام للمشروبات مثلاً على خزانة الدولة، أيام أن كانت مع الحكومة، وبين عائدها الآن بعد خصخصتها، وسوف تعرفون معنى الخصخصة، حين تكون خالصة لوجه الله، ووجه الوطن!