فى مصر طريقة السير مثل طريقة الحكم يتشابهان فى الكثير ويختلفان فى القليل، وكل من شاهد وتأمل كيف يدار المرور فى شوارع القاهرة سيتذكر على الفور طريقة إدارة الدولة فى مشهد شديد الغرابة من تشابهه. لقد ظلت مصر شوارعها طبيعية مثل باقى بلاد الله حتى السنوات العشرين الأخيرة، فتشابهت مع بلدان المغرب العربى ودول أمريكا اللاتينية وأوروبا الجنوبية، فى أنها عرفت أرصفة وإشارات مرور وميادين، صحيح أنها لم تكن نظيفة تماما مثل البلاد المتقدمة، وصحيح أيضا أن إشارات المرور لم يحترمها كثير من الناس، ولكن فى النهاية كانت هناك قاعدة ما اسمها إشارة المرور، وأرصفة يمشى عليها الناس، إلى أن اختفى كل شىء، وأصبحنا فى فوضى عارمة وضعتنا خارج الزمن والعقل. لقد اخترعت الحكومة المصرية نظاماً مرورياً غير موجود فى أى مكان فى العالم (بما فيها أفقر الدول وأكثرها تخلفا)، وانتشر كالسرطان فى شوارعنا ومياديننا ويسمى «الدوران الحر»، ويعكس من اسمه حجم التسيب والاستهبال الذى دمر شوارع القاهرة ولم يحل مشاكلها، ويقوم هذا النظام على إلغاء التقاطعات والميادين، ونقل دوران السيارات عشرة أو عشرين متراً للأمام، بدلا عن استخدام إشارة المرور، وصارت لدينا شوارع تمتد لعشرات الكيلومترات مثل شارع الهرم ولا تعرف إلا نظام الدوران الحر. وجريمة هذا النظام أنه نسى أن فى مصر مشاة يستحقون إشارة مرور ومكاناً آمناً للعبور، فلم يهتم إلا بتأمين الطرف الأقوى فى المعادلة أى صاحب السيارة، كما أنه رحّل مشكلة الزحام ولم يحلها، ونقلها من الميادين إلى نقطة أبعد قليلا تتكدس عندها السيارات قبل أن تدور نصف دورة وتعاود السير. إن هذه الجريمة، التى تعامل معها الناس ببلادة نادرة، تصيب حوالى 25 شخصا بين مصاب وقتيل، كل يوم، على امتداد كورنيش الإسكندرية الذى يعانى من قلة عدد أنفاق المشاة، واعتماد نظام الدوران الحر، وبات منظر هذه الأسر التى تقف لفترات فى انتظار «فرج الله» قبل المخاطرة بعبور الطريق مؤلما لبعض من يشاهدونهم، أما هم فقد تعاملوا مع خطر الموت بثبات وبرود غريبين. إن عصر الدوران الحر فى المرور هو نفس العصر فى السياسة والاقتصاد، فالمواطن العادى غير المسنود الذى ينتمى لفئة «المشاة» هو ضحية الحكومة فى الشارع كما فى السياسة، فهو منسى فى الشارع حين ألغت الحكومة إشارة المرور بألوانها الثلاثة ومعانيها المحددة، ووضعت مكانها ضوءاً أصفر مراوغاً يُضاء ويطفأ ولا يعطيك أى معنى، تماما مثلما نرى فى الواقعين السياسى والاقتصادى، فلا يوجد معيار تعطى على أساسه الحكومة الشرعية للأحزاب، ولا يوجد معيار يرتقى على أساسه الناس فى السلمين الاجتماعى والوظيفى، ولا يوجد معيار يفرق بين تاجر المخدرات والمحتال، وبين رجل الأعمال، ولا يوجد فرق بين «كباتن» الكرة ونجوم الكوميديا الجهلاء، وبين علماء السياسة والطب والهندسة، ولا يوجد قانون يحاسب المخطئين، إنما فقط ضوء أصفر يفتح أمامك كل خيارات الفوضى والفساد التى تؤكد أنك تعيش فى عصر الدوران الحر. [email protected]