كم هى صعبة رحلة العودة إلى البيت لينعم الفرد بالراحة والسكينة مع أسرته، بعد يوم عمل طويل وشاق، فى مدينة فقدت كل حواسها .. مدينة، على الرغم من أنها لازالت حية، إلا أنها، لا ترى ولا تسمع من كثرة الضباب والضجيج المحيط بها.. مدينة، فقدت حاسة الشم من كثرة مقالب القمامة المنتشرة في كل أرجائها.. مدينة، لا تتذوق ما تقدمه من أطعمة ملوثة لأبنائها وبناتها .. هى، لا تستطيع حتى أن تميز بين من يربت على كتفها برفق وحنان، وبين من يركلها في مؤخرتها بشدة وعنف. **** كم هى صعبة مثل تلك الرحلة، رحلة العودة إلى البيت والسكينة، خاصة لو كان الفرد يمتهن عملا من الأعمال الشاقة ، كأن يكون سواق عربية كارو، يعانى حرارة الشمس الحارقة فى الصيف، وبرودة الطقس فى الشتاء، أو مبيض محارة، يقضى معظم وقته وسط أسمنت ورمل وأتربة ، ...... ، أو أن تكون مثلها ، "علياء"؛ تلك الفتاة ذات الثمانية عشرة ربيعًا ، والتى تعمل بائعة في أحد محلات الملابس، تستقيم على قدميها لأكثر من عشر ساعات يوميا فى ذلك المول (المركز التجارى) القاطن بمنطقة المعادي القريبة من محل سكنها بعزبة خير الله. عزبة خير الله، واحدة من 14 منطقة عشوائية تابعة لقسم مصر القديمة يتم تصنيفها على أنها من المناطق العشوائية غير الآمنة. ومثلها؛ منطقة بطن البقرة، ومنطقة إسطبل عنتر. وغيرها العديد من المناطق بالقاهرة ومحافظات أخرى. في عزبة خير الله، تنتشر القمامة بكميات كبيرة ... تنعدم الإضاءة تمامًا ... يصعب السير على الأقدام أو حتى الدخول بالسيارات لتدهور حالة الشوارع ... كلاب ضالة تبحث عن زادها وسط القمامة .. شباب مدمن يتسكع على جانبى الطريق ... *** تحلم "علياء" ببيئة نظيفة، تحلم بأن ترى، في طريق عودتها إلى البيت، محل زهور تبتاع منه زهرة لأبيها القعيد منذ سنوات، وأخرى لأمها التي تعمل شغالة في البيوت، وثالثة لأختها طالبة الابتدائي الصغيرة .... مجرد أحلام، لكنها تصر علىها .. كل يوم أثناء عودتها من عملها تطلق العنان لخيالها .. تحلم ... وفي ليلة من ليالي الشتاء الباردة، أثناء عودتها من العمل في ساعة متأخرة من الليل، وبينما هي سارحة في أحلامها، تنزلق قدماها فوق حجر من تلك الأحجار الملقاة لتصنع طريقا وسط بركة مياه الصرف الصحى القابعة منذ شهور عند مدخل الحارة التى تقطن بها ... تنزلق "علياء" غارقة في مياه الصرف الصحي، وقبل أن توافيها المنية، تنهض "علياء" من وكستها وهي تلملم أشيائها وتصرخ بأعلى صوتها: حرام عليكو يا ولاد الكلب.