ما إن تبدأ الساعات الأولى من يوم أي "سبت" حتى أتذكر أنه كان مجرد يوم يبدأ بعد مليونية "جمعة"؛ يفضى بعدها الميدان من مرتاديه ويبقى فيه، فقط، مريديه ومجاذيبه .. وكنت -دايما- ليلتها، ألاقي نفسي مع واحد من اتنين مختلفين شكلا ومضمونا: "م/ حسني عبد الرحيم" أو "عم/ رؤوف البابلي". ورغم اختلافهما، هَدَتني حضرة سيدنا الميدان لوجه الشبه الوحيد بينهما، اللي هو: "الهردابكش". عم/ رؤوف البابلي. شخصية غريبة، فوق الستين، ماكنتش أشوفه ف الميدان غير بعد الساعة 12 بالليل، متشيك على سنجة عشرة، حالق دقنه ناعمة زي الحرير، لابس طاقية شبابي. يظهر فجأة وسط أي قعدة. لو قمت مشيت تلاقيه في ضلك، يلازمك من غير ما يفتح بقه بكلمة واحدة. لم يمارس أي عمل من أكتر من 20سنة. كان طول الوقت دا بيحاول يسترد حقه في المطبعة اللي ورثها عن أبوه، ولأنه (مابيعرفش) يرشي المخبر والأمين وكاتب الجلسة، خسر كل القضايا، وأصبح رهن رضاء إخوته عنه. يتعطفون عليه من وقت لآخر بمبلغ يخليه يدوبك عايش. ولما قامت الثورة، لقى ناس كتير تسمع حكايته، فبقى ينزل الميدان يحكيها، ورغم إن أكتر المعتصمين كانوا بيسمعوه من باب التسلية وتمضية الوقت، إلا أنه استمر يحكيها. أكتر حاجة تميزه إنه كان دايما شايل شنطة بيجمع فيها زاده وهو راجع بيته القريب من الميدان. وزاده دا ممكن يكون مجرد دبوس، ولا قلم مرمي جنب الرصيف، ولا شنطة فيها سندوتشين تلاتة باين من ريحتهم إنهم لسة طازة، أو أي حاجة تاني ممكن ينفع يستخدمها بكرة ولا بعده. ...... م/حسني عبد الرحيم. يطلق عليه البعض (الرفيق غالب). شخص واسع الاطلاع على كل فروع الثقافة بشكل عام، شارك في أغلب المظاهرات والاعتصامات، منذ أواخر الستينيات حتى تاريخه. تنقل بين مصر وفرنسا، واندمج مع الكثير من اليساريين هناك، وارتبط روحيا وفكريا بالمفكر الفرنسي "دانيال بن سعيد"، حتى عاد إلى مصر قبل عصر 25 يناير بشهور قليلة. ليصبح واحدا ممن يطلق هو نفسه عليهم: مجاذيب الميدان. يتحدث عن "ماركس" و "تروتسكي" وآخرين من منظري الشيوعية، بنفس الحميمية التي يتحدث بها عم/ رؤوف عن قليلين من جيرانه وأقاربه الذين ناصروه لاسترداد حقوقه دون جدوى. لم يكن يبرح الميدان إلا نادرا حتى يصبح دوما واحدا ممن يدورون في حضرته. يساهم في بناء الأفكار واستنتاج النتائج، ومناقشة الشباب في كل جديد عن الثورة والثوار. ................................ عم/ رؤوف و المناضل حسني أو عم/ حسني و المناضل رؤوف ...... شخصيتان لم يكن بينهما وجه شبه سوى: "الهردابكش". .... "الهردابكش"؛ مجرد كلمة كانوا الاتنين بيستخدموها في مواضع كتيرة في الكلام (رغم أنهما لم يتقابلا أبدا ولا يعرف أحدهما الآخر). في أوقات يستخدموها كبديل لكلمة الثورة، أو كلمة المظاهرات أو الضرب اللي يكون شغال في محمد محمود أو عند مجلس الوزرا ...إلخ. ممكن حتى تلاقيهم يستخدموها كبديل لمشكلة المرور، أو مشكلة السكن أو الصحة. ورغم استخدامهما المتكرر للكلمة، لم أعرف لها معنى محدد. وأغلب الظن أن المعنى الحقيقي لها سيظل في بطنهما لفترة طويلة. والمعاني -كما نعرف- تبقى في بطون الشعراء. وعلى الرغم من أن كليهما لا يكتب شعرًا، إلا أنني أكاد أجزم أنهما من شعراء الميدان. وقد يأتي اليوم الذي نعرف من أي منهما المعنى الحقيقي لتلك الكلمة: "الهردابكش". .......... مدد ومدد ومدد مدد يا سيدنا الميدان مدد