يمكن أن تلتقي بالروس ليس فقط في غردقة أو شرم الشيخ، فهناك أيضاً أولئك الذين مدّوا جذوراً عميقة في أرض القاهرة والاسكندرية، أو في أسوان والأقصر، بحيث أصبحت مصر وطناً ثان للبعض، أو شبه وطن للبعض الآخر، فما الذي يجذب الروس بهذا الشكل إلى بلاد الأهرامات؟ غادرتُ روسيا عندما كنت في السادسة عشرة من العمر، وفي البداية درستُ في أحد البلدان العربية، بعد ذلك وجدت نفسي في مصر، وفي القاهرة أردت أن أمارس اللغة العربية عملياً، وأن أقضي بعض الوقت قبل موعد التقدم لإحدى الجامعات الروسية، ولكن القدر قادني إلى طريق آخر، فها أنذا أعيش هنا في مصر منذ سبع سنوات، وعندي زوج مصري وطفلان. يجذبني الطقس في مصر قبل أي شيء آخر ، فهنا صيف دائم وبحران، ولا داعي للتفكير بالثياب الشتوية، أو الخوف على تسريحة الشعر تحت المطر، أو اللقاحات الموسمية، حتى أنني أسافر إلى روسيا في الصيف، لأنني صرت غير معتادة على الطقس البارد، فلم أر الشتاء منذ اثني عشر عاماً، وفي الحقيقة فإنني لا أفتقد الشتاء كثيراً، لأنه يوحي لي دائماً بالكآبة، كما أنني على ثقة من أن المناخ الذي نعيش فيه يترك بصماته على طباعنا، وعلى أحاسيسنا تجاه العالم المحيط، أليس لهذا السبب تجد الناس في الشرق مبتسمين، مسترخين، ومضيافين؟ أما السبب الآخر الذي يجعل الروس والأجانب الآخرين يحبون مصر فهو الأسعار الرخيصة نسبياً: الغاز، البنزين، الفاكهة، الخضار، المطاعم، ممارسة الرياضة، إيجارات السكن، كل ذلك أرخص مما هو عليه في روسيا. سياح روس تقول إحدى العائلات من مدينة بطرسبورغ بأن" مصر بيتنا الريفي"، وفي الواقع، فإنه لا يفصل مدينتهم عن مصر سوى بضع ساعات من الطيران، وساعتين من الفرق في التوقيت، وبالمقابل: باقة من الشمس والبحر وابتسامات الترحيب على وجوه السكان المحليين. ولكن، على الرغم مِن كلّ ما في مصر من روعة، فإنني اشتاق لروسيا في بعض الأحيان، أشتاق إلى الطبيعة الروسية، إلى الشوارع العريضة، واللغة الروسية، والخبز الأسود، وأشتاق إلى والديّ وأقاربي، ومن الغريب أن أدرك أن بيتي هنا، بينما هم هناك، وأن ذلك سيكون على مدى الحياة، وأن أولادي لن يفكروا باللغة الروسية، وأنهم بعيدون عن جدّيهم وجدتَيهم، وخالاتهم وأخوالهم، وأبناء وبنات خالاتهم وأخوالهم ... أحياناً أفكر بذلك فينتابني حزن حقيقي. على أية حال، يوجد في منطقتنا بالقاهرة كثير من الروس، فنحن نعيش بين المركز الثقافي الروسي والقنصلية والسفارة الروسيتين، وعلى سبيل المثال، ففي الطابق الذي يقع تحتنا مباشرة تعيش أسرة روسية، الأب موظف في القنصلية الروسية، والأولاد يرتادون المدرسة المحلية، ويتحدثون بثلاث لغات، ولكنهم في البيت يتحدثون مع والدهم ووالدتهم بالروسية فقط، وبالتالي فلا أشعر بالملل. كما أن غالبية الذين يتكلمون اللغة الروسية زاروا في وقت ما المركزَ الثقافي الروسي في القاهرة، حيث توجد فيه مكتبة، صالة سينما، صالة رياضية، وصفوف تعليم مختلفة، فهو يشبه جزيرة تزخر بالحياة الثقافية الروسية، ونوع من أماكن اللقاء، وهنا يمكن سماع الأخبار الواردة من روسيا، والتعرّف على أشخاص جدد، أو مجرد الاستماع إلى اللغة الروسية، كما توجد في القاهرة مدرسة روسية تابعة للسفارة، وهذا ما يعطي مصر أفضلية أمام البلدان العربية الأخرى، حيث يأتي إليها المتعاقدون من روسيا مع أسرهم، وكثير منهم يبقى في مصر لعدة سنوات. الغردقة تُعَدُّ قلب مصر الروسية. تُشكّل النساء المتزوجات من مصريين القسمَ الأكبر من الجالية الروسية في بلاد الأهرامات، وتتراوح أعمار الأطفال المولودين من زيجات مختلطة ما بين حديثي الولادة والخامسة والعشرين، كما يوجد أولئك الذين ولدوا قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، وفي الغالب لا تُظهر أسماؤهم انتماءهم القومي، فعادة ما يحمل الأطفال في الأسر الروسية العربية أسماء عربية يمكن أن نصادفها في روسيا، مثل: تيمور، كريم، أدم، ياسمين، ناديا، صوفيا، وبالمناسبة فإن والدة الفنانة العربية الشهيرة نيللي كريم هي روسية، ولكن ليس الجميع يعرفون ذلك. أطفال روس في مصر وبالطبع فإن الغردقة تُعَدُّ قلب مصر الروسية، حيث تشعر بالتواجد الروسي في كل مكان: في المقاهي، حيث يقيمون حفلات شرب الشاي، وحيث أصبحت الروسيات من السكان المحليين، وفي المدارس المحلية التي افتتحها مواطنون روس، وفي المركز الثقافي الروسي، أو على الشاطئ الذي يذكّرنا بمنتجع سوتشي في بعض الأحيان، كما يوجد في الغردقة متجر للمنتجات الروسية افتتحته مواطنة روسية، وهنا يمكن أن تجد بسعر معقول كل ما تشتهيه النفس الروسية تقريباً. وتبتسم ناتاشا التي تعيش منذ فترة طويلة في الغردقة قائلة: " توجد عندنا في الطابق شقةٌ للإيجار، وغالباً ما يستأجرها روس، لأن منطقتنا تقع في المركز، ويمكن التعرف بسهولة على أولئك الأشخاص الذين جاؤوا من فترة قصيرة، فنظرتهم غير مهتمة، وتراهم مستعجلين وجديين، ذلك أنهم لم يغيروا إيقاع حياتهم بعد، لم يشتاقوا للغتهم، لا يبحثون عن أصدقاء بين وجوه مواطنيهم الجديدة".