يكتب : السيرك الدولي في المنطقة ! العالم كله يجلس علي مقاعد المتفرجين ، وهي يشاهد ببلاهة وإنبهار تلك الألعاب النارية التي تتوالي في سماء الشرق الأوسط ، طائرات مقاتلة ضخمة من كل الأنواع تحلق بحرية وإستمتاع وهي تقذف الدمار دون أية مقاومة علي الإطلاق ، ولا حتي عصفورة تبدو في الصورة القاتمة ، وعلي الأرض نيران ودخان كثيف يخفي بقايا الأطلال والبشر . ومن عجب أن العالم لا يزال يجلس علي مقاعد المتفرجين دون حراك ، رغم أن بعض الصور الملونة في سوريا مثلاً حملت بعض ملامح ذلك الوحش الإسطوري المسمي بالإرهاب ، حيث أتضح من تلك الصور أن ذلك الوحش ليس إلا أطرافاً آدمية ممزقة لأطفال ونساء وشيوخ ، وبعض الحناجر التي تجأر بالشكوي لمن تكون الشكوي لغيره مذلة . حرب عالمية ثالثة ضد جنرالات داعش وأسلحتهم الفتاكة ، حيث فجأة أكتشف العالم المتحضر أن هؤلاء الجنرالات ومعهم الأعوان من القاعدة وغيرها لديهم قدرة غير عادية لتصنيع أسلحة الدمار الشامل ، بل ووصل الأمر ببعض المحللين الإستراتيجيين وخبراء الفضائيات الميامين ، إلي التأكيد بإحتمال حيازة هؤلاء الجنرالات للقنبلة النووية .. وهنا يضع البلياتشو وجهه الضاحك ، ويضحك الأطفال ويصفقون بينما يفرك الكبار عيونهم شبه النائمة . ويعلن السيد نتن ياهو أيضاً أنه في حرب ضد الإرهاب ، وتشن طائراته ودباباته هجمات مخططة بدقة للقضاء علي الإرهاب ، ثم تنقل الصور الملونة أهداف هذه الهجمات التي لا تزيد عن فتات أطفال رضع ، وبقايا أشجار زيتون محترقة أو مقتلعة ، ويعرف العالم كله ربما لأول مرة تعريفاً لمصطلح الإرهاب : أنهم الأطفال وأشجار الزيتون .. ويضع البلياتشو وجهه الباكي ، وتدمع عيون الأطفال ، بينما يجتهد الكبار في مواراة ضمائرهم وإبتلاع كرامتهم . ويعلن الرئيس الأمريكي بفصاحته المعهودة أن إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها ، وتلك فصاحة محيرة ، تشبه إلي حد كبير أن تقول لبلطجي ضخم الجثة وقد جثم فوق طفل صغير يضربه ، لك الحق أن تدافع عن نفسك !! .. وهذه ليست سياسة مزدوجة ، وإنما سياسة القوة وفرض الأمر الواقع ، سياسة الغاب ومفردات الظفر والناب ، وإذا كانت أقوي وأعظم دولة في العالم تقر هذه السياسة ، بل وتحض عليها ، فكيف يمكن لعاقل أن يلوم داعش أو حماس إذا كانوا يحاولون مجرد إستخدام اللغة نفسها وإن كان ذلك بشكل بدائي وغير مؤثر. ولا شك أن هناك العديد من العقلاء الحكماء الذين سوف يبادرون بالحض علي ممارسة ضبط النفس ، وبأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان أو كائن أو سيكون ، أو بأن الباب الذي يجيئ لك منه الريح ، سده وأستريح ، إلي آخر هذه العبارات التي نحتها الزمن علي جدران الهوان والذلة والمسكنة . وهناك أيضاً العديد من الدراويش الذين سوف يقلبون أوراقهم الصفراء كي يستحضروا عفريت من الجن كي يثأر لهم من الأعداء ويشتت شملهم ، أو ينسبون ذلك إلي القضاء والقدر الذي ينبغي علي المرء أن يتحمله دون إعتراض ، وأن يأخذ الصفعات علي قفاه ويحمد الله أنه لا يزال حياً .. ولكن هل هذه حياة ؟؟ . أكثر من بليون مسلم يجلسون ضمن باقي بلايين العالم في مقاعد المتفرجين ، ومن الصحيح أن بعضهم يلوي شفتيه إمتعاضاً ، وبعضهم الآخر يذرف الدمع الهتون في المساء ، ولكن من المؤكد أن الأغلبية تكظم الغيظ كي تفرغه في نسائهم وأطفالهم .. والمسألة بالفعل تتطلب تحليلاً نفسياً للتعرف علي الحالة التي يعيش فيها أكثر من بليون مسلم وهم يشاهدون ذلك الإمتهان غير المبالي لأقدس ما يعتزون به ، وتلك المهانة التي وصلت إلي حد ذبح أحياء أسري دون أن يحتج أحد . لماذا أصبح ضحايا تلك الحرب العالمية الثالثة الجديدة أسماء تبدأ بمحمد وأحمد وعلي ؟ ، هل هي نبؤة " هينجتون " حول صراع الحضارات ، ولكن أي صراع هذا ؟ ، هل يستقيم أن نطلق علي ما يحدث إصطلاح الصراع ؟ ، حيث لا يوجد أي تكافؤ من أي نوع بين طرفيه ، أنه ليس صراعاً وإنما مذبحة تتم علي مرأي ومسمع العالم كله ، ويكفي أن ننظر إلي الصور الملونة لجثث المدنيين في سوريا أو العراق أو في مدن وقري فلسطين ، لقد ماتوا ومزقت أشلاءهم دون أن تكون لديهم فرصة حقيقية للدفاع عن أنفسهم ، فالموت ينقض عليهم من فوق السحاب ، بينما جنود المارينز يتباهون أمام الكاميرات في الخطوط الخلفية ، ويدفعون الأغبياء كي يستكملوا مراسم الذبح علي الأرض . أن قراءة الواقع وبعض دروس التاريخ تؤكد بشكل لا يمكن مجادلته أن سياسة القوة العمياء وغرورها سوف تنقلب في النهاية علي أصحابها ، ولكن يبدو أن العمي قد بلغ مداه إلي درجة إنعدام القدرة علي القراءة أو الفهم ، لقد نجحت الدعاية الغربية والإسرائيلية في خلق حالة من العداء غير مسبوقة ضد المسلمين والعرب ، وتمكن اليمين الأمريكي ورفيقه اليمين الإسرائيلي من توسيع معسكر الأعداء ، وظني أن هناك آلاف المدارس في قري ومدن العالم الثالث تستوعب الآن الدرس الذي أرادت تلك القوي الجبارة أن تلقنه للعالم ، فالحق هو أن تمتلك القوة وتمارسها ، والباطل هو أن تكون ضعيفاً ، وربما أنتهت معسكرات داعش في سورياوالعراق وليبيا ، وربما زالت حماس والجهاد الإسلامي من الأرض الفلسطينية ، ولكن من المؤكد أن ما يتم بذره اليوم بالقنابل وسفك الدماء سوف ينمو مع كل طلعة شمس في بلاد المغلوبين علي أمرهم ، وسوف يخلق غابات من الكراهية تتضاءل أمامها عمليات داعش أو حماس ، وأسارع بالقول بأن تلك المنظمات لم تكن لتنجح في تسويق قضيتها بنفس النجاح الذي حققته تلك المذابح التي أكدت المنطق السائد ، منطق القوة وغلوائها . أن الرهان الأعظم الذي يراهن عليه هؤلاء المخططين الإستراتيجيين في واشنطن وتل أبيب هو هوان وضعة الأغلبية الصامتة من الشعوب المغلوبة علي أمرها ، الرهان الأعظم هو أن تلك الأغلبية ستظل مشدوهة منبهرة بلهاء في مقاعد المتفرجين ، ولقد كان ذلك نفس رهان المخططين أثناء حرب فيتنام وما قبل حرب العبور بدقائق قليلة ، إلا أن هذه المقامرة قد تؤدي في بدايتها إلي أرباح محدودة ، ولكنها في النهاية خسارة مؤكدة لأنها رهان علي مجهول ، وهذا المجهول معلوم لمن يفهم دروس التاريخ ، ومن يعرف أن البراكين التي تبدو خامدة لا تصدر نشرة صحفية قبل أن ترسل حممها وجحيمها. ------------ المقال منشور في المشهد الأسبوعي والكاتب مساعد وزير الخارجية الأسبق المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية