بدأت الكتابة في عام 1968، واستمرت تجاربي حتى الساعة، وهو ما يعني أنني أداوم على هذا الفعل طيلة 47 عاما، دونما انقطاع . أحببت الحياة منذ مولدي، فدفعني ذلك لحب الناس، مهما كانت غلظتهم أو قسوة قلوبهم، لأن هناك في المقابل من يمتلكون طيبة مفرطة، يمكنها أن تتوزع على الكون كله بلا اختلال . هذا الحب ورطني أكثر في الكتابة. كنت وحيدا، فقيرا، مشحونا بالحيرة، متسائلا دائما عن معنى الوجود . كل تجاربي في الشعر أو في السرد حاولت فيها الإجابة عن معنى الحياة، عن أزمة الوجود، عن كينونة الإنسان الممزق بين قطبي الخير والشر، ولم أصل لإجابات نهائية مقنعة. لدي يقين كامل، أنه من المهام الأصيلة للفرد أن يدفع الحياة باتجاه نفع الناس وتخفيف آلامهم، ولتحقيق سعادتهم، والتقليل من عذاباتهم، وقد وجدت أن الكتابة تفعل ذلك. لم أحاول مرة أن أختلق قصة أو أن أهيم في عوالم الخيال المطلق ؛ فعذابات الأرض كفيلة بأن تمد الكاتب بعشرات بل بمئات التجارب الحقيقية التي يتم معالجتها جماليا بالشكل المناسب مع وجود مساحة للعب الفني الحميد. لذلك استثمرت كل تجاربي في تدشين النص : في عوالم الطفولة، في العمل بورش الأثاث، في الانتقال لمحل بيع الأحذية، في فترة التجنيد بالكتيبة 16 مشاة وانتقالها في أماكن متعددة مثل المحسمة وسرابيوم والدفرسوار وتبة الشجرة بسيناء، في رصد شمس الدمام المشرقة والقريبة جدا من الناس والشوارع، في التفصيلات الدقيقة التي تحاول الإجابة عن السؤال الصعب : كيف تحول الألم أو البهجة أو الحيرة إلى حيز الكتابة ؟ ربما تكون كتاباتي موزعة في حقول إبداعية منوعة منها الشعر والقصة القصيرة والمسرح والدراسة النقدية لكنني في كل الأحوال لم أتعمد مرة أن أجبر نفسي على فعل الكتابة بل أترك نفسي على سجيتها فلا يمكن أن انتزع المتعة وهي قلب النص الإبداعي من قلب كائن مأزوم. لكي تنقل المتعة للمتلقي ينبغي أن تحس أولا بحالة النشوة وفيض العذوبة : في الفكرة، واللغة، والأسلوب . بدون ذلك تكون " صنيعيا " ماهرا فقط، ورغم أن هذا لا يعيب الكاتب فهو بعيد عن طريقتي في التفاعل مع النص. عندما عملت محررا ثقافيا لفترة أربع سنوات أو ما يزيد في جريدة " اليوم" السعودية بمقرها الرئيسي بحي البادية بالدمام تسلحت بفكرة أن تعمل الشيء بحب وصفاء واهتمام. لكي يتحقق ذلك سعيت إلى إقامة صلات قوية مع رفاق الأدب والمسرح والفنون التشكيلية، وبذلك صرت جزء من كيان حي فاعل. ذلك لا أحب أن ارصد من بعيد . أن تتورط في الفعل الثقافي هذا شيء يفيدك شخصيا ويجعلك في قلب الحدث لا على هامشه. أنا ابن بحر بامتياز، لذلك كانت النوارس ومساحات الزرقة، وزنود الصيادين القوية، وطاولات السردين الخشبية، وأشرعة المراكب المفرودة، تملأ قصصي، وتزيدني قربا من منطقة مفتوحة على العالم . أتصور أن كل كاتب له أيقونة، وأيقونتي " نورس أبيض وحيد " يحلق قريبا من الماء ولا تثقله الأرض بهمومها المقيمة إلا بمقدار . أنا كذلك ابن مدينة عتيقة، تهتم بالحرفة، لذلك لم يكن غريبا أن تمتليء فضاءات نصوصي بالصبية في ورش النجارة، ومحال الأحذية ، فيما الأسطوات يندفعون إلى الأقبية التي يعلو فيها ترتيل الشيخ محمد رفعت ليبدأ يومهم بالبركة، بالبنات الجميلات شاحبات الأوجه في معامل الحلويات . إن التجربة العميقة في الحياة تفضي غالبا إلى كتابة جارحة في النص الأدبي . كثيرا ما تواجهني حالات تيبس أو عقم إبداعي مفاجيء، لذا أجد خلاصي في الحارات المتربة، في نواصي الشوارع . أنزل لاختلط بالباعة، أتحدث مع هذا أو ذاك، وأصبر كثيرا حتى يصلني صوت مائز أو لفتة غريبة أو إيماءة شاردة، تنقذني مع محنة التوقف، وقتها تنبثق الفكرة، ويلمع بداية الخيط السري السردي الساحر . أنا حميمي مع المكان، أرتب نفسي مع مكوناته من مكتب بسيط وحائط وصور وكوب شاي وصوت موسيقى خافتة . إذا بدلت المكان توقفت على الفور حتى يتعود حالة التناغم مع الأشياء حولي. مع أنني عامة ضد الميتافيزيقا، فإنني أتوجس من قط أسود يتسلل في الليل على عتبتي، ومن بكاء طفل رضيع يتناهى إلى سمعي من الشرفة، وأسعد بشكل غريب مع ترديدات كروان يعبر السماء فوقي قادما من حقول قريبة. هذا العنصر الخفي يستقر في وجداني ولا أسعى لزحزحته أو إبعاده. وفي اليوم الذي تعبر فيه عتبة بيتي قطة سوداء أصمم على كتابة نص أبيض، بلا سوء !؟ أنا أعلم بعذابات الإنسان ومكابداته . يكفيه حزنا أنه يدب على الأرض طلبا لكسرة خبز أو جرعة ماء أو ظل ابتسامة .. يحدث كل هذا دون أن يكون له اختيار في الوجود أو العدم. أفكر منذ صغري في الموت، وأراه طائرا عملاقا له مخالب مقوسة وأجنحة خرافية، يهبط فيخطف الأرواح، ويطيرا عاليا في السموات البعيدة. مات أبي وعمري عام واحد، فبعث هذا الغياب في قلبي شجن عميق، لم أتبينه إلا عندما كنت ازور " الجبانة "، حيث أحمل سعف النخيل الأخضر، كي أضعه برفق على حدبات القبور، وأسوي الأعواد الجافة بتسوية خفيفة لنباتات الصبار ذات الشوك القصير . كان ضروريا أن أنتبه للزمن، بمنحنياته المؤلمة، واندفاعاته المفاجئة، ومكابداته العصية على التفسير، وقدرته على اختراق البشر، وضرب أحلامه في الصميم . لعل الشعر ومن بعده السرد، كانا قادرين على معالجة أسراره من خلال التأمل والدهشة. أهتف كلما ألمت بالكون نازلة، أو شملني هم عصيب : يارب . نحن صغارك، فارأف بنا، وتجاوز عن خطايانا التي لا يد لنا فيها بسبب " الجبلة "، وامنح الكون كله المسرة . امنح بسطاء الأرض ما وعدتهم من بهجة دائمة وفرح مقيم، واجعل الناس يعرفون أن الحروب المدمرة تساوي المؤامرات الصغيرة المصنوعة بإحكام.. لا معنى لها مع انسياب تيار الحياة الجارف باتجاه شيء بعيد، ربما يمكن لأجيال قادمة أن تتصوره أفضل منا.