يبدأ الفضاء الإلكتروني في التحرك فجأة كأنه كائن حي يتنفس، فنجد أنه هناك موجة جديدة تظهر من العدم تبدأ بمقطع عفوي لشخص لم يكن يقصد الشهرة ثم تنفجر الظاهرة في كل مكان تتسلل إلى الشاشات والهواتف والكلمات وحتى الملابس، فيقلدها الملايين دون أن يسأل أحد من أين بدأت أو لماذا أصبحت مهمة. وقد أوضحت دراسة صادرة عن معهد رويترز لدراسات الصحافة بجامعة أكسفورد أن الظواهر الرقمية تنتشر وفق آليات نفسية واجتماعية تشبه العدوى العاطفية التي تنتقل بين الناس بسرعة لا يمكن السيطرة عليها لأنها تقوم على المشاعر لا على المنطق.
لماذا تنتشر بعض الترندات أكثر من غيرها؟ يصنع المستخدم أحيانًا الترند دون قصد حين يشارك فيديو بسيط يعبر عن موقف طبيعي فيلتقطه الآخرون ويعيدون إنتاجه بطرق مختلفة حتى يتحول إلى حالة جماعية، كما حدث مع مقطع الشاب السعودي الذي قال جملة عفوية "ما أدري ليه كذا بس" فتحولت إلى موجة ضخمة من المقاطع والميمات وأصبحت جملته رمزًا للكوميديا العفوية في العالم العربي، وكما انتشر مشهد الفنان محمد هنيدي من فيلم وش إجرام ليُستخدم في مئات المواقف الساخرة دون ارتباطه بالمشهد الأصلي فأصبح كودًا ثقافيًا يعبر عن الدهشة أو الاستغراب. كما تدفع خوارزميات المنصات هذه الظواهر إلى القمة لأنها تبحث دائمًا عن المحتوى الذي يثير التفاعل فتقدمه لملايين المستخدمين وتخلق انطباعًا بأن الجميع يتحدث عن الشيء نفسه، رغم أن الخوارزمية هي من توجه نظرنا إليه حدث ذلك في تريند "الفلتر العجوز" على تيك توك الذي جعل الناس يرون وجوههم في المستقبل فشارك فيه الملايين بدافع الفضول والدهشة حتى صار ظاهرة عالمية رغم بساطته التقنية. فيما تتحول بعض الترندات إلى وسيلة للتنفيس الاجتماعي والسخرية من الواقع كما حدث في مصر عام 2023 عندما اجتاح السوشيال ميديا تريند "الناس قاعدة تعمل إيه دلوقتي" فاستخدمه الجمهور للتعليق على الأزمات الاقتصادية والظروف المعيشية بروح الدعابة فحول الغضب إلى نكتة وخلق مساحة جماعية من التخفيف النفسي، وهو ما يسميه خبراء الإعلام الرقمي "المقاومة الناعمة" إذ يوظف الناس السخرية للتعبير عن الألم بطريقة مقبولة ومشتركة. وينبع الترند في جوهره من حاجة الإنسان للانتماء والرغبة في أن يكون جزءًا من جماعة تعيش اللحظة ذاتها فتمنحه المشاركة إحساسًا بالوجود والهوية الرقمية، لذلك تتكرر الظاهرة مع اختلاف الشكل لأننا لا نشارك فقط في المحتوى بل في الإحساس الذي يولده فينا من فضول أو دهشة أو ضحك، ولهذا يرى علماء النفس الرقمي أن التريند يمثل مرآة لما يشعر به الناس لا لما يفكرون فيه. لكن الوجه الآخر لهذا العالم مليء بالحسابات الدقيقة فالكثير من الترندات لا تُولد عفويًا بل تصنعها شركات التسويق والإعلانات التي توظف خبراء في تحليل البيانات وصناعة السرديات لإطلاق محتوى يبدو طبيعيًا ثم يتحول إلى أداة ترويج خفية، كما فعلت بعض العلامات التجارية العالمية التي استخدمت تريندات مزيفة للترويج لمنتجاتها عبر محتوى ساخر أو مؤثر صمم بدقة لاصطياد المشاهدين وحذر تقرير معهد رويترز في جامعة أكسفورد لعام 2024 من خطورة هذا النوع من التلاعب الذي يحول المنصات إلى سوق ضخم للانتباه البشري حيث تُقاس القيمة بعدد المشاهدات لا بالمحتوى أو المصداقية. كما تولد الموضات الرقمية من لا شيء لكنها في الحقيقة تولد من دواخلنا من حاجتنا إلى المشاركة والضحك والتعبير عن الذات ومن رغبة المنصات في إبقائنا متصلين أطول وقت ممكن، فالتريند ليس حدثًا عابرًا بل انعكاس حي لطبيعتنا البشرية حين نضحك ونسخر ونشارك دون أن ندرك أننا جميعًا نصنع الظاهرة التي نظن أنها جاءت من الخارج بينما هي بدأت منا نحن.