كنا في الحلقتين السابقتين تحدثنا عن استخدام الموسيقى لأجل صحة وسعادة وراحة الإنسان، وأكدنا أنها ليست فقط شيئًا ترفيهيًا، ولا هى محصورة في مجال الفلسفة أو العبادة، كما تحدثنا عن أن الموسيقى اتصال لا كلامي: «عندما تتوقف القدرة على الكلام تبرز الموسيقى»، وأوضحنا أن العلاج بالموسيقى هو العملية التى يتم بموجبها تنظيم إيقاع الحركة داخل الجسم الحى بواسطة موجات الموسيقى وإيقاعاتها، سواء عن طريق الاسترخاء المقيد لكثير من الحالات المرضية.. وفى هذه الحلقة نستعرض الجذور التاريخية للعلاج بالموسيقى. الجذور التاريخية للعلاج بالموسيقي الموسيقى أزلية.. تملأ أرجاء الطبيعة إيقاعًا وأنغامًا.. كما تملأ الكيان الإنسانى بالإيقاع المنظم.. أى أن الإنسان بكل أعضائه يعيش بإيقاع منتظم.. فالنبض في الجسم إيقاع.. باختلاله يختل الجسم كله، وبتوقفه تتوقف الحياة فيه.. كما أن القلب وضرباته، والتنفس بشهيقه وزفيره، والجفون في طرفة العين، والفم واللسان في الكلام، والمضغ في الأكل، والمعدة والأمعاء في انقباضاتها المنتظمة لدفع الطعام خلالها منذ ابتلاعه حتى إخراجه من الجسم.. كله يسير بإيقاع خاص. كل ذلك وغيره يسير حسب إيقاعات مختلفة ولكنها منتظمة، متكاملة، ومتجانسة.. اذا اختل شيء فيها اختل الجسم كله. فما دام الإيقاع سليمًا، فالجسم كله يكون سليمًا. أما حينما يضطرب الإيقاع، فالجسم كله يصبح مريضًا، لأنه إذا تألم عضو واحد في جسم الإنسان يصبح الإنسان ككل إنسانًا مريضًا. من هنا جاءت فكرة تنظيم الإيقاع الداخلى للإنسان عن طريق الموسيقى بإيقاعاتها المختلفة المعينة لكل حالة مرضية. فلم يقتصر استخدام الإنسان للموسيقى على تهدئة الأعصاب وقضاء الأوقات السعيدة بسماعها ومساعدته في أعماله اليومية عن طريق الغناء وفى العبادة.. بل استخدامها أيضًا في الميادين العلاجية، إلى جانب القيم الإبداعية الجمالى- كما ذكرنا من قبل. الإنسان البدائى والعلاج بالموسيقى لقد كان الغناء والرقص عند الإنسان البدائى جزءًا من طقوسه السحرية، يستخدمها لطرد الأرواح الشريرة (العفاريت- كما كان يسميها) باعتبارها تسبب الأمراض، حسب معتقداته القديمة. من هنا اعتقد الإنسان الأول أن الموسيقى تشفى الأمراض بإبعاد الأرواح الشريرة وغفران الخطايا، وإدخال القوى الأخلاقية والأدبية في حياة البشر، وعمل التوازن المنشود بين الأمزجة الأربعة التى كان يظن أنها تحدد الطبع الإنساني، مما يعمل على إرضاء الآلهة. ومن باب المعرفة، فأسلوب «الأمزجة الأربعة» يرجع إلى العصور القديمة، نسبة إلى طبيعة المشاعر والأحاسيس المكتسبة تجاه عوامل خارجية، من بينها الموسيقي، واعتبروا هذه الأمزجة تشمل جوانب أربعة. - المزاج المائي: ويوحى بالهدوء والبرود، المزاج الناري: وهو عكس المزاج المائى ويوحى بالعنف والثورة، المزاج الترابي: ويوحى بالثبات والتوازن، المزاج الهوائي: وهو عكس المزاج الأرضى أو الترابي، ويوحى بالتشتت وعدم الاستقرار. «الترتيل» طريق الشفاء استخدم قدماء المصريين الموسيقى في العلاج، ويقال إن كهنة معبد أبيدوس- وهو أكبر مراكز الطب في العصور المصرية القديمة- كانوا يعالجون الأمراض بالترتيل المنغم، باعتبار الموسيقى تقرب المرضى من الآلهة، وتحقق رضاءهم، وبالتالى تشفى أمراضهم.. لذلك كانت فرق موسيقية خاصة تعزف في المستشفيات، وكان يرتادها المنشدون والراقصون، فكانت الأوتار والإيقاعات تدق بجوار المريض، وتختار له النغمات المناسبة، وفى التوراة، ذكر أن داود النبى كان يخفف آلام شاول الملك وغضبه بالعزف على القيثارة. والواقع أن العلاج بالموسيقى لم يقتصر على قدماء المصريين فحسب، وإنما امتد إلى الحضارات الشرقية القديمة، وعلى الأخص في الصينوالهند. فالصينيون والهنود أعطوها أهمية عظيمة وربطوها بالحياة الدينية والوطنية. فكان كونفوشيوس- الفيلسوف الصينى الكبير- لا يعشق الموسيقى فحسب، بل كان ينسب إليها أفضالًا اجتماعية.. ويعلن أن الموسيقى هى أداة فعالة مهمة لتحقيق الانسجام في الحياة، كما أن أهل الهند يسمونها «ماذرا سينتا» أى سحر الأغنية. العلاج بالموسيقى في الحضارة اليونانية حكى في الأساطير اليونانية أنه أمكن إيقاف نزيف أوديوس المجروح بواسطة الغناء، لاحتواء الموسيقى على قدرات تستطيع شفاء أخطر الأمراض.. فكانت الوثنية مليئة بالعجائب التى كانوا يرجعون الفضل فيها إلى الموسيقى. وقد تطور الفكر الإغريقي، وانتقل إلى بداية مرحلة العمل، في صورة أول محاولة لتقسيم الموسيقى حسب تأثيرها إلى المقامات التالية: (أ) الفريجى «Frigian»: ويجعل الإنسان شجاعًا جسورًا، (ب)الليدى «Lidian»: ويبعث على الحزن والشجن، (ج)المكسوليدى «Maxolidian»: ويؤدى إلى حالة من الضيق (د) الدورى «Dorian»: ويبعث إحساسًا بالارتقاء والاعتزاز بالنفس. وفى الكتاب الرابع من «الجمهورية» The Republic صرح «أفلاطون» الفيلسوف اليونانى بأن الصحة في العقل والجسم، ويمكن الوصول إلى الصحة عن طريق الموسيقى والجمباز، كما أشار إلى القوة العلاجية للأنية. كما قال أفلاطون: اللحن والترنيم يجدان طريقهما في تواضع داخل النفس البشرية». وأعلن فيثاغورس: إن الموسيقى يمكن أن تداوى جنون الناس، وإنها تساهم مساهمة كبيرة في الصحة إذا ما استخدمت بطريقة مناسبة. وكذلك أشار «أرسطو» إلى المفعول المفيد والعلاجى للموسيقي، وكان «أمبيدوكليس» يهدئ المصابين بالصرع بواسطة اللعب على آلة «الزيتر»، وكاسيدروس ينسب للموسيقى القدرة على طرد أعظم الأحزان، حيث يقول: «إنها تطفئ المخاوف والثورة، وتهدئ القسوة، وتزيل الثقل، وتمنح المنتبهين راحة هادئة، وتبعد الكراهية، وتشفى الملل وثقل الروح». ثم يأتى «جالينوس» فيصف الموسيقى كترياق من سموم الأفعى والعقرب. أما هيبوقراط «أبوقراط»- وهو من كبار الأطباء القدامى- فيقول: إن كل مريض يحتاج إلى نوع من الموسيقي، حسب حالته. فيجب أن يكون اختيار الموسيقى موفقًا، حتى لا تعطى آثارًا عكسية. وقد امتد أثر هذه الأفكار إلى عصر متأخر في تلك الحضارة، حتى أن «أثيناوس النحوي»، الذى عاش في القرن الثانى قبل الميلاد، أكد لقرائه أنه يمكن التخلص من مرض «عرق النسا» بعزف المزامير في المقام الفريجى فوق الأجزاء المصابة. العلاج بالموسيقى في الحضارة الرومانية لقد قام الرومان بتعديل طفيف على المقامات الإغريقية، وذلك بتغيير درجة ركوزها، مما أعطى هذه المقامات تأثيرات أخرى مختلفة.. ثم استغلوا هذه المقامات في التأثير على النفس، بعد معرفتهم بأنها تثير الانفعالات المختلفة لدى الإنسان. 5- العلاج بالموسيقى في الحضارة القبطية: في أشهر المتاحف والمكتبات العالمية، وأهمها المتحف البريطاني، ومكتبة «جون ريلاندز» «John Rylands» والفاتيكان، ومتاحف برلين بألمانيا، ومتاحف ميتشيجان بالولايات المتحدةالأمريكية، توجد أوراق بردى كثيرة كتب عليها باللغة القبطية منذ القرن الثالث، وهى فترة ازدهار القبطي. أغلب هذه الأوراق تحتوى على إرشادات كثيرة في النواحى الطبية، شبيهة بما كان في العصر الفرعوني، وبعض هذه الإرشادات يفيد بترتيل المزامير بهدف شفاء المرضي. وفى هذا العصر كان رجال الدين يعالجون الأمراض النفسية والعضوية باستثناء مرض العيون.. فكان يقوم به رجل دين أكثر تخصصا. على ورق البردي، حكى أن القديس «أبوطربو» كان يعالج المرضى-خصوصًا المصابين بالصرع- بواسطة صلاة عرفت باسم «صلاة أبوطربو».. وذلك عن طريق ترتيل المزامير بجانب قراءات من الكتاب المقدس. وقد أطلق الأقباط في مصر على العلاج بواسطة ترتيل المزامير للمرضى داخل الكنيسة اسم «العلاج المقدس».. كما استخدموا طريقة أخرى للعلاج عن طريق موالد الأقباط السنوية وأطلقوا عليه «العلاج الشعبي». في الحلقة التالية نواصل الحديث عن العلاج بالموسيقى في الحضارة العربية وطرق وأساليب العلاج بالموسيقى.