ذهبنا أنا وأمى وإخوتى الصبية إلى بلدنا، كنت انتهيت من امتحانات الصف الثالث الابتدائي، ونجحت بتفوق كبير، اجتزت كل الاختبارات، وحصلت على الدرجات النهائية. وصلت إلى القرية كعادتي، ركضت إلى الجرن بجوار منزل جدتي، حتى ألعب وألتقط حبات التوت، وسط أبناء وبنات خالاتي، أبحث عن الغائبين منهم، حتى نلتقى ونلعب سويًّا كما تعودنا، فكنا نركض وراء بعضنا البعض حول الترعة التى تبعد بضع خطوات عن منزل جدتي، فكان الذهاب للقرية بمثابة متعة لا تقدر على وصفها الكلمات، ثمة مغامرات طفولية، كالبحث عن الثعابين التى كانت أحيانًا تخرج من تبن القمح، ومن سيقوم بجمع أكبر عدد من البطاطس عندما تخرجها باطن الأرض، ومن سيقود الجاموسة لحظيرة المنزل والبحث عن الأرانب بداخل جحورها فى بيت النخلة!. فكان بيت النخلة هو مجرد قطعة فضاء ملحقة بالممر الذى يؤدى إلى منزل جدتي، محاط بسور من الطوب والطين وتتوسطه نخلة رائعة الجمال كانت تُثمر أطيب التمور، لا يمكن أن أنسى طعم تمرها الرطب، والأرانب قد صنعت لها جحورًا بداخل الأرض، كانت تختبئ فيها حينما تشعر بوجودنا، كنا لا نتركها أبدًا، هى أكلتنا المفضلة، فبيت النخلة كان منجم للخير والعطاء، فكل ركن فيه كنت تجد بيض الدجاج هنا وهناك. ولكن هذا لم يحدث فى هذه الزيارة، بحثت عن الجميع ولم أجد منهم أحد، فالجميع كان يستعد لزفاف إحدى بنات خالاتي، والجميع فى منزل الخالة، أمى غابت مباشرة عن عيني، بعد أن وصلنا إلى منزل جدتي، مكثت بمفردى أبحث عن الجميع، حاولت الذهاب لمنزل خالتى الكبرى، ولكنى خشيت وقتها ألا أتذكر الطريق، فالمنازل كلها متشابهة، كلها من دور واحد، مبنية من الطوب اللبن والطين، ولا توجد أرقام ولا علامات ولا حتى لافتات؛ لتوضح لمن هذا المنزل، فالكل يعرف المنازل بأسماء العائلات، وأنا لا يعرفنى الكثيرون من أهل البلدة سوى أقاربى فقط، والذين لا أتذكر أسمائهم حتى الآن بسبب بعدى التام عن القرية منذ عشرات السنوات. بعد أذان العصر جاءت إحدى بنات خالاتى واصطحبتنى إلى الفرح المنشود، وتم زفاف ابنة خالتى الكبرى على زوجها، كانت الأجواء سعيدة والطعام فى كل مكان وزفاف بسيط ورائع، روعته فى بساطته وسهولته دون إحداث ضجر ملثما يحدث الآن، وبدأت الزغاريت تتعالى، ولكنى فوجئت بأمى تصطحبنى دون أن أكمل الفرح وأخذتنى وذهبنا إلى منزل خالتى الأخرى، ووجدتها تصعد بى على سطح المنزل، انقبض قلبى للحظات، لكنها طمأنتنى بلا مبرر، فلم أعبر لها عن تلك القبضة التى حدثت داخلى، وكأننى ذاهبة لشيء مجهول لا أعلمه لكنه شيء مريب، كأننى سأدخل شيئا وسأخرج شيئا آخر. لم أكمل الحديث الذى دار بداخلى ووجدتنى أمام سيدة سمراء بدينة فى يدها كيس من القماش، أمسكت أمى بى ووضعتنى على كرسى خشبى قديم، وفوجئت بأمى تُمسك بيدى وتلفها حول الكرسى وتُحكم قبضتها بشدة لدرجة أننى قمت بالصراخ الشديد، وتساءلت ماذا تفعلين، اتركينى أنا لم أفعل شيئا لم أخطيء ماذا حدث. لم انتبه جيدًا، وجدت إحداهن تمسك رجلى وتخلع عنى ثيابى الداخلية وتبعد قدمى عن بعضهما البعض، الشمس وقتها أوشكت على الذهاب، وبدأت فى الخفوت التدريجي، وجاءت نسمة هواء من بعيد وقبل أن تقترب منى حتى استنشق تلك النسمة، حتى ألتقط أنفاسى من الصراخ، وجدت من يضع يده على فمى ليبعد تلك النسمة، ليقترب منى شيء آخر حديدى الملمس حاد، ليقطع عنى آخر رمق فى أن أحيا، ووجدت دماءً غزيرة تتدفق من بين قدمى تغرق ثيابى الجديدة التى أرتديها، وألم لن تقدر الكلمات على وصفه، وكأن الروح خرجت من هذا الجسد النحيل ولن تعود إليه. قصة قصيرة ل/ سمية أحمد