طفل يتحمل المسئولية منذ صغره، فقد ترك الأب زوجته أمانة فى عنق الطفل الصغير، باحثا عن زوجة أخرى أنجب منها طفلين، وحين رفض الطفل أن يعيش بلا أب، حمل حقيبته وذهب إليه، فطرده من منزله وعاقبه بأخذ حقيبة الملابس لتكون درسًا قاسيًا يمنعه من التجرؤ وتكرار الزيارة. يتوارى حزن عبدالرحمن (14 سنة)، خلف الزى المدرسي، ويحمل على ظهره حقيبة مدرسية، لكنها لا تحمل كتبًا يرى فيها أحلامه وطموحاته فحسب، بل يحمل فيها «طفايات» هى مصدر رزقه الوحيد، فيطوف «عبدالرحمن مجدي» صاحب الخمسة عشر عامًا، الشوارع وعربات المترو والحارات المختلفة ليبيع الطفايات بعد انتهاء دوام المدرسة، فيحمل فى حقيبته المدرسية التى أتعبت كاهليه كما أتعبه الشقاء، الكتب والطفايات معًا. يعيش الطفل مع والدته فى شقة بالإيجار فى الشلايش القديمة بمنطقة أبو النمرس بالمنيب، وذلك منذ أربعة عشر عامًا، حين قرر الأب الانفصال عن أسرته الصغيرة وطفله الوحيد الذى لم يكمل حينها عامه الأول بعد، فوجدت الأم نفسها دون مصدر رزق بعد تبرؤ الأب من كل مسئولياته، فظلت تعمل منذ ذلك الحين فى مجال بيع «التوك» والأدوات التجميلية حتى الآن. ويصف عبدالرحمن بعيون حزينة لكن راضية مطمئنة، رضاه الدائم عن ظروفه وشكره لله على تمتعه بالصحة والعافية هو ووالدته، وأوضح أنهما ليسا «مقطوعين من شجرة» ولكن يزورهما أقارب والدته باستمرار، وعم وحيد دونًا عن عائلة والده يسأل عنهما من الحين للآخر، ولكن قطيعة الأب أساسية لا جدال فيها رغم وجود الود من الأقارب حتى وإن كان متفرقًا، فلم يزرهما ولو على سبيل الخطأ، وكأنه لم يحن الوقت بعد لاستيقاظ ضميره من غفوته المميتة. يصف عبدالرحمن معاناته مع والده وأسرته الجديدة، التى قرر الأب بناء أركانها بعد انفصاله عن زوجته الأولى بمدة لا تتجاوز الثمانية أشهر، فبدأ الأب حياة أخرى تملؤها الأنانية على رفات سعادة وحقوق عبدالرحمن ووالدته، وأنجب من زوجته الجديدة؛ محمد (11 عامًا) وشهد (9 أعوام)، ورغم وجود الأخوين مع عبدالرحمن فى نفس المدرسة؛ فإنهما يسيئان معاملته، معبرًا عن ذلك الوضع المؤلم بعبارة «أبويا مقسيهم عليا ولما يشوفونى ساعات بيحدفوا عليا طوب هما وأصحابهم»، وعلى غير المعتاد، فزوجة الأب أكثر عطفًا من الأب والإخوة، فترى روابط الدم والحب قد تفككت أوصالها، وراق دم النسب والأخوة بين غيابات الجفاء، لتكون زوجة الأب هى الفائزة نسبيًا عندما يصفها عبدالرحمن، قائًلا «هى كويسة معايا ساعات وساعات لكن أبويا وإخواتى وحشين معايا على طول». الجفاء يجلب القسوة بالطبع، ولكن لا تنطبق هذه العبارة على العلاقات العابرة فقط، وإنما تتجسد هنا فى علاقة الأب بابنه، فيحكى «عبدالرحمن» آخر موقف جمعه بوالده منذ سنوات، عندما قرر زيارته، فقاده خياله فى طريق الذهاب إلى حفاوة فى الاستقبال ومزيج من الندم والشوق المخبأ بين ثنايا القلوب، ليصل إلى بيت أبيه، ويهبط من سماء الأحلام إلى أرض الواقع الأليم، عندما طرده الأب من منزله وعاقبه بأخذ حقيبة الملابس التى جلبها معه، لتكون درسًا قاسيًا يمنعه من التجرؤ وتكرار الزيارة. عاد «عبدالرحمن» مكسور القلب، وأدرك أن العمل هو طريقه الوحيد للخلاص وتغيير واقعه هو ووالدته، فعمل فى مجالات عدة، منها بيع حقائب اليد الرجالية وعلب الكبريت، حتى أهداه خاله «كرتونة طفايات» ليتربح منها شرط الحفاظ على الأموال التى يجمعها، فاستمر فى بيع الطفايات منذ خمسة أعوام؛ لأنها على حد وصفه «هى اللى ماشية اليومين دول».