فى ظروف تاريخية غير تلك التى يمر بها الوطن العربى ، لم تكن تصريحات عضو مؤتمر الحوار الوطني اليمني صالح البيضاني ، بإن "الهبّة الشعبية" التي إستجاب لها عشرات الآلاف من أبناء الجنوب بعد دعوة "حلف قبائل حضرموت" تأتي لتحقيق حلم إقامة "دولة حضرموت الكبرى" ، لتمر مرور الكرام ، خاصة فى ظل خطط تقسيم المنطقة التى جرى نشرها مؤخرا ، والتى تعيد رسم خارطة " سايكس- بيكو" ، بهدف تحويل المنطقة إلى دويلات صغيرة متصارعة . فاليمن - الذى لم ينجو من موجة التحولات العربية الجارى إحباطها - ليس بعيدا عن مخططات تقسيمه الى عدة دويلات ، وذلك بناء على أسس مذهبية ومناطقية تتستر بالمطالب الحقوقية والقانونية والسياسية لابناء المحافظات الجنوبية والشرقية ، وتتم رعايتها من قبل أطراف إقليمية ودول أجنبية ، خاصة وأن مخطط تقسيم اليمن نجح خلال السنوات الماضية في جعل محافظة "صعدة" واجزاء من محافظاتالجوف وحجة - الشمالية - خارج نطاق سيطرة الدولة ، وذلك بحكم سيطرة جماعة الحوثيين المدعومة من ايران عليها. ووفقا لما أكده البيضاني فإن "الهبّة الشعبية" التى إشتعلت أمس الجمعة ليست نتاجا مباشرا لمظالم ، ولكنها وإن استترت خلف مطالب حقوقية مشروعة فإنها في جوهرها محاولة لاقتناص فرصة ظلت تراود الكثير من السياسيين ورجال الأعمال والمفكرين "الحضارم "والمتمثلة في تحقيق حلم "دولة حضرموت الكبرى". وكانت قبائل وعشائر في محافظة حضرموت دعت إلى "هبّة شعبية" إذا لم ترضخ الحكومة لشروطها ، بعد مقتل شيخ قبائل الحموم في المحافظة مطلع الشهر الجاري برصاص قوات عسكرية اشتبهت في انتمائه وجماعته المسلّحة إلى تنظيم "القاعدة". وفيما تتوارد التحذيرات من تجاهل مخطط لفصل حضرموت والمهرة ، تشير الوقائع على الأرض إلى أن ما يسمى ب "العصبة الحضرمية" قد قطعت اشواطا كبيرة في تحقيق هذا الهدف من خلال تحركات واتصالات سرية اجرتها خلال الاشهر الماضية تم فيها طرح قضية استقلال حضرموت عن اليمن بعيدا عما يمكن ان يتم التوصل اليه من صيغة لشكل الدولة والعلاقة بين الشمال والجنوب، في مؤتمر الحوار الوطني الذى بدأ فى مارس الماضى . وإذا كانت قضية الجنوب المشتعلة لم تراوح مكانها منذ حرب الوحدة التى خاضها على بد الله صالح عام 1994 ، إلا أنه عندما بدأ مشروع التشاور الوطني أصبح الحديث عن القضية الجنوبية أمرا متعارفا عليه ودخل أدبيات الحوار والتشاور الذي بدأ العام 2009م ، حيث جرى شكيل لجنة خاصة اسمها لجنة القضية الجنوبية ، وتم تعزيز قضية الجنوب فى الحوار الوطنى الذى بادر به الرئيس الحالى عبد ربه منصور هادى برعاية دولية وإقليمية . عندما اندلع الحراك السلمي منذ العام 2007 بدا عدد من أعضاء وقيادات التجمع اليمني للإصلاح وبرلمانييه مترددين وحائرين في إتخاذ موقف واضح من شعارات الحراك وحتى من سياسات القتل التي اتبعتها أجهزة الأمن تجاه نشطاء الحراك ، وراح البعض يبحث عن مبررات (مقنعة) لسياسات القمع والتنكيل التي تتعامل بها الأجهزة الأمنية مع نشطاء الحراك ، ومضت أشهر طويلة لم يقم أحد من قياديي الإصلاح ولو بزيارة ودية للناشط الإصلاحي (السابق) أحمد با معلم عندما كان معتقلا في صنعاء ، ولم يحضر أحد جلسة من جلسات محاكمته ، بينما كان كثير من نشطاء التجمع في محافظات الجنوب يتصدرون فعاليات الحراك السلمي ولا يترددون في الاقتراب من شعارات الساحات ، وفي سياق الثورة الشبابية السلمية كان حديث التجمع اليمني للإصلاح (خصوصا في محافظات الجنوب) يرفع الصوت عاليا بشأن القضية الجنوبية. وفى إطار طرح قضية الجنوب اليمنى ضمن فعاليات هذا الحوار الذى تعرض للكثير من العثرات ، تبنت 51 شخصية جنوبية وغالبيتهم من القيادات البارزة في حزب المؤتمر الشعبي العام واحزاب اللقاء المشترك، تشكيل اقليم شرقي يضم محافظات شبوة وحضرموت والمهرة وجزيرة سقطرى ، يصب في مشروع "دولة حضرموت الكبرى" . وأدى تضارب التوجهات بين الرئيس اليمنى القائم على إدارة "الدولة الموحدة " من جهة وممثلى الجنوب من جهة أخرى إلى إشاعة أجواء من التوتر ، بعد أن وجه هادي كلمة قاسية لأحد قيادات الجنوب وهو محمد علي أحمد ومن وقف الى جانبه بالقول " المتاجرون بالقضية الجنوبية سيجدون أنفسهم خارج التاريخ " ، الأمر الذى حدا بمحمد علي أحمد بالرد عليه في بيان صحفي قال فيه "إن من دخلوا الجنوب على ظهور الدبابات في حرب 1994 مع علي عبدالله صالح لن يرحمهم التاريخ" في إشارة الى الرئيس هادي الذي قاتل الى جانب صالح في تلك الحر ب ، رغم أنه من أبناء الجنوب. ورغم محاولات الرئيس هادي لإحتواء الموقف ومطالبته بأن ينصاع الجميع للمصالح الوطنية العليا والتضحية ونكران الذات والترفع فوق المصالح الشخصية الحزبية الضيقة وتغليب مصلحة اليمن العليا فوق الخلافات ، إلا أن رصاصة التصريح بالإنفصال كانت قد إنطلقت ولم يعد هناك مجال للتورية ، وهو ما جعل قضية اعادة إنفصال الجنوب تبدو أكثر حضورا . ويبدو أن الصراع على خيارين متناقضين وهما بقاء اليمن موحدا أو إعادة إنفصال الجنوب ، فتح الباب واسعا أمام تبادل الإتهامات بأن كل جانب يريد أن يصعد الخلافات من خلال أساليب وطرق تهدف للحصول على مكاسب حزبية وشخصية تتعارض مع المصالح الوطنية العليا . فأهل الجنوب يتهمون السلطة بأنها فشلت خلال السنوات التى أعقبت إنهاء " دولة اليمن الجنوبى" فى بناء الدولة وتوزيع الفرص العادلة بين المواطنين ، وأن هذا الفشل دفع الناس للتصارع حول الفرص وأن ما حدث في حضرموت أمس وما سيحدث اليوم وغدا وبعد غد ، ما هو إلا صراع ظل مكتوما لسنوات ويتمحور حول الفرص . ويعتقد الجنوبيون والحضارم " أهل حضرموت" على الخصوص أن أبناء الشمال يسيطرون على الفرص ويضيقون الخيارات أمامهم ، وأن السبب ليس أبناء الشمال وإنما الدولة التي فشلت في التوزيع العادل والمنطقي وخلق الفرص المتساوية ، وهو ما أدى إلى دفع الناس بفشلها إلى الصراع وربما إلى الاقتتال ،حال ظلت الأمور في توتر متصاعد دون صدور قرارات تشعر أبناء الجنوب بالاطمئنان حول المستقبل ،لان المستقبل قاتم ومظلم في هذه البقعة الجغرافية من اليمن رغم أنها تزخر بالثروات والخيرات والأرض الواسعة التي يلتهمها الفساد فيما يعانى الملايين من الفقر والعوز. فيما تنظر السلطات اليمنية المركزية إلى ما يجرى من حراك فى الجنوب يتوازى مع تواجد محموم لتنظم القاعدة وغيره من التنظيمات المتشددة ، على أنه لعب بمقدرات اليمن من جانب قوى دولية وإقليمية على رأسها إيران ، وأن ما يجرى من مطالب للجنوبيين ما هو إلا حق يراد به باطل تحركه دول وأجهزة لا تريد خيرا باليمن . إلا أن أهل الجنوب الذين يشتكون من الإقصاء والتهميش يرون إن الصراع بات صراع وجود ، فالجنوبيون منذ سنوات رفعوا الشعار"نكون أو لا نكون" وتدرج هذا الأمر في المطالب حتى وصل إلى المطالبة "باستعادة الدولة الجنوبية" ، منطلقا من شعور بالإقصاء والتهميش وتضاؤل أو ربما إنعدام الفرص المتاحة من أجل العيش الكريم أمام الكثير من أبناء الشعب في الجنوب ، الذين فقد اباؤهم وإخوانهم وظائفهم ومصادر عيشهم بسبب قانون التسريح من الخدمة الذي سنته السلطات بعد حرب صيف 1994 ، والذي وجد بسببه الآلاف أنفسهم في الشوارع من دون مصادر عيش أو حقوق وتعويضات مناسبة . ومما زاد الطين بله أن أبناء الجنوب إبان حكم على سالم البيض ، كانوا يعتمدون اعتمادا كبيرا على الدولة في خلق فرص العمل والحصول على التعليم والتطبيب المجاني وتوفير سبل الحياة ، وذلك بسبب طبيعة النظام الاشتراكي آنذاك ، ووجدوا أنفسهم من دون غطاء اقتصادي وإئتماني لهم ولمئات الآلاف من أفراد أسرهم . ووجد جيل "الوحدة" في الجنوب نفسه يصارع على أرضه ، في ظل انعدام تام للفرص المناسبة بسبب ما يعتقدون أنه سيطرة أبناء الشمال على رؤوس الأموال والمشاريع الاقتصادية والاستثمارية ، بالإضافة إلى ضخ أعداد هائلة من السكان إلى الجنوب لتشغيلهم في تلك المشاريع ، ناهيك عن الوظيفة العامة وغيرها باعتبار أن الجنوب هو مصدر عيش ورزق للوافدين ، الأمر الذي عقد المشكلة ووسع من رقعة البطالة والحرمان والفقر في ظل غياب السياسة الاقتصادية والإدارية التي بإمكانها التخطيط لمعالجة كل هذه المشكلات وإيجاد فرص متساوية أمام الجميع . ومن هذا المنطلق يرى أبناء الجنوب إن الهدف الأساسي من مشروع "دولة حضرموت " ، هو بناء كيان اقتصادي حديث يمتلك المقومات الكافية لمواصلة نجاحات التنمية البشرية للإنسان وتوفير الحياة الكريمة للأسرة والفرد ، بالإضافة إلى استعادة الهوية التاريخية للبلاد وإنهاء حالة الارتباك المزمن في هوية المنطقة الجنوبية من شبه الجزيرة العربية ، تلك المنطقة التي أصبح سكانها تائهين بين الانتماء لهويات جهوية يمنية كانت أو جنوبية عربية أو جنوبية يمنية ، تسببت كما يرون فى خلق حالة ارتباك كبير في المفاهيم الوطنية لدى سكان ما كان يعرف بالجنوب العربي تارة وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية تارة أخرى والجمهورية اليمنية مؤخرا. إلا أن خيارات التقسيم مهما تعددت الرؤى لا تصب فى صالح أى بلد ، خاصة فى حالة اليمن الذى تتصارعه مختلف التوجهات والأيديولوجيات ، وتتربص به دول كبرى وقوى إقليمية على رأسها إيران ، وذلك بسبب موقعه الإستراتيجى ، كما أن إعادة تدوير معادلة الوحدة بين أبناء الجنوب والشمال يمكن أن تنهى حالة اللدد فى الخصومة ، خاصة إذا جرت معاملة أبناء الجنوب معاملة خاصة يتيحها تعدادهم السكانى وتمركز 95 فى المائة من الثروات التي ترفد ميزانية الدولة فى الجنوب ، بالإضافة إلى مساحة الأرض والموقع وغيرها من المميزات التي يمكن أن توظفها السلطة الحالية التى يرأسها أحد أبناء الجنوب . وإذا كان الجنوبيون يطالبون باستعادة دولتهم لأنهم يرون أن بإمكانهم الحفاظ على ما تبقى من ثروات وأرض لتأمين مستقبلهم ومستقبل الأجيال القادمة من بعدهم ، فإن الدولة اليمنية الرامية إلى الإستقرار يجب أن تعيد لهم الأمل الذى فقدوه في ظل السلطات المتعاقبة على حكم اليمن ، وتكرس لديهم مفهوم المواطنة من خلال الإبتعاد عن تخوين المطالبين بالحقوق وتأمين مستقبل أهل الجنوب ،وحتى ذلك الحين سوف تظل مطالب الحراك السياسية المرتفعة ورقة ضغط قوية على السلطات لأنها مدعومة بالمظلومية ، رغم كل دعاوى التخوين التى تثيرها " دولة الحضارم" .