وصف الكاتب اللبناني عباس بيضون رواية "في غرفة العنكبوت" للكاتب محمد عبد النبي، بأنها "تقرير عن المثلية"، وقال في مقاله بجريدة السفير اللبنانية إن الرواية ذات عنوان محير، حسب وصفه، وأنها بدت أقرب إلى تقرير عن المثلية الجنسية منها إلى الرواية، وكتب بيضون: «غرفة العنكبوت» عنوان محير «لرواية» محمد عبد النبي. صحيح أن العنكبوت يظهر في ثنايا الرواية، عنكبوت يربيه بطل الرواية ويخفيه في درج، العنكبوت الضخم الذي كان معلقا في سقف الزنزانة، أنه رمز بدون شك، لكننا نتعقبه بدون أن نتبين دلالته، ربما هي الحياة العنكبوتية لبطل الرواية وراويتها، مع ذلك يظل الرمز مستغلقا علينا باقيا هكذا كالرموز الشعرية التي تبقى خارج الفهم، ما دام الشعر بحد ذاته تحويلا إلى رموز. رواية محمد عبد النبي أثارت في حينها، ولا تزال، ضجة، بوسعنا أن نفسر ذلك بسهولة. الرواية بصوت مثلي محاط بالمثليين، ونحن هنا أمام مجتمع مثلي، واللغة والتدابير والسلوكيات هي أيضًا تعابير وتصرفات مثليين. قد لا يكون لهذه الرواية سابقة من هذه الناحية وقد تكون سوابقها إن وجدت قليلة، هناك "عمارة يعقوبيان" التي سبقت إلى فتح هذا الموضوع، لكن في رواية محمد عبد لنبي ما لا نجده في "عمارة يعقوبيان" التي كانت المثلية أحد مواضيعها، في رواية محمد عبد النبي عالم من المثليين، والرواية التي تحوي 348 صفحة تدور من أولها إلى آخرها في هذا العالم. تبدأ الرواية بالسجن الذي ضم عددًا من المثليين جرى التقاطهم واتهامهم بمؤامرة وهمية، إنهم عبدة الشيطان وحاملو جرثومة الشر في دمائهم وأجسادهم، لكن حكاية السجن تفتضح وتتلقى ردود فعل عالمية من حركات حقوق الإنسان. هذه صفحة من الرواية تليها صفحة أخرى هي طفولة الراوية الذي نشأ في بيت ترزي ورث الصفة عن أبيه، وأم كانت في أول أمرها ممثلة، ولما تُوفي زوجها، وهي بعد في صباها، عادت إلى التمثيل، وحظيت هذه المرة بشهرة حقيقية. أما الصفحة الثالثة فهي ما بعد السجن وبعد وفاة الأم، والرواية هي عبارة عن تعاقب هذه الصفحات وتقاطعها. فثمة دائمًا فلاش باك يردنا إلى فترة ماضيه أو حاضره نخرج منها بفلاش باك يردنا إلى فترة أخرى، بيد أن هذا التعاقب والتقاطع على درجة عالية من الحذق والحنكة، بحيث تستقيم وتستقيم معها الرواية في هندسة مائلة وبناء متماسك. الرواية ليست فقط هذه الهندسة، فإن شروطًا أخرى للرواية تبدو مستوفية هنا ومتكاملة إلى حد بعيد. لعل أول ما يلفتنا في الرواية هو قوة السرد، فمحمد عبد النبي يملك هذه القدرة على أن يروي، وعلى أن تتسلسل حكاياته وتتعاقب وتتقاطع بسلاسة ورهافة وامتلاء. لن نقول جديدًا إذا تحدثنا عن المتعة في القراءة وعن قوة الحبكة وعن التشويق. بيد أن فوق دراية الكاتب بالعالم الذي يقدمه وتحريه له ما يجعل الرواية، في جانب منها، نوعًا من سوسيولوجيا المثلية ونوعًا من بحث فيها. إلا أن ما يلفتنا أيضًا هو اللغة والأسلوب. قلما نجد الآن في رواياتنا الحديثة عملًا على اللغة وأسلوبه بالقدر الذي نجدهما في رواية محمد عبد النبي، اللغة والأسلوب هنا ليسا فقط بالدقة والقدرة على التعبير اللذين نجدهما في الرواية، بل إن في رواية عبد النبي لكوابيسه وأحلامه وفي تداعياته داخل الحمام وداخل السجن، وفي حديثه عن أمه قبل رحيلها وبعده، في كل ذلك ما يقارب الشعر خيالًا وتداعيًا وبثًا وحنينًا وجوًا. لن نجد في هذه الرواية الطويلة نسبيا إلا ما يشبه البستان ونحن نتنزه فيها تنزهنا في حديقة، ولا أقول غابة. لكن الموضوع المثلي، على جرأته وعلى جدته، يبدو مقصودًا في الرواية مهيمنًا عليها، بدرجة أننا لا نكاد نعرف عن البطل إلا أنه مثلي، ولولا أشياء عن عائلته وطفولته، لوقفنا عند هذه الصفة. كما أننا لا نعرف عن رأفت والبرنس وميتا جميل وعبد العزيز وكريم سعدون، لولا القليل الذي نلمّ به عن كل واحد منهم إلا إنهم مثليون، وقد نعرف عن أحدهم بعض الوقائع وبعض الصفات كتلك التي وصلت إلينا، على وجه الخصوص، عن كريم سعدون إلا إنهم بشكل رئيسي مثليون ومحورهم ومدىهم هما هذه المثلية. حتى أن خرس الراوية في السجن ثم انفكاك هذا الخرس يبدوان كأنهما من عوارض هذه المثلية، هم مثليون في الأساس ومثليون بالدرجة الأولى، ومثليون فقط، كأن هذه المثلية كافية وحدها لحياة كاملة، أو كأن هذه المثلية لا تقول إلا نفسها. كأن المثلي ليس، إضافة إلى المثلية، صاحب مواقف وآراء وأفكار وأمزجة وأذواق وطبائع وصفات وثقافات، أن ليس لديه سوى مثليته. هل يمكن أن نفكر بأن ليس لدى تشايكوفسكي ورامبو وميكال انج وابي نواس وسواهم سوى مثليتهم. الأرجح أنه كانت لكل من هؤلاء، ولكل مثلي آخر، دراما حياته وصراعاته وأحواله، مثل لكل إنسان، وقد يتميز المثلي بأشياء في الذوق، وفي الإحساس وفي السلوك لم نجدها في الرواية. جرأة الرواية يبدو أنها ابتلعتها وحصرتها، وقصد هذه الجرأة ضيّق عليها، فبدت من هذه الناحية أقرب إلى الدعارة، وبدت كأنها من بعض النواحي ريبورتاجًا عن المثلية وتقريرًا مسهبًا عنها.