هل ركبت البحر من قبل وأبحرت بعيدا عن البر؟! إن ركوب البحر ممتع ولا شك طالما كانت تسطع الشمس، لكنه مخيف ولا ريب بالليل.. فمنظر التقاء الماء بالسماء على مرمى البصر فى الأفق هو (بانوراما) ممتعة فى النهار ومخيفة فى الظلام، موسيقاها مؤلفة جملها من هدير الأمواج وصفير الرياح، ويتراوح تأثيرها فى الإنسان بين السلب والإيجاب طبقا لحال تلك البانوراما وطبيعة ما فيها من إضاءة، وهى موسيقى رائعة.. أروع من سيمفونية بيتهوفن الخامسة. ومشهد غروب الشمس يراه راكب البحر مختلفا كل يوم عن ذى قبل طبقا لحال الرؤية التى قد تكون ممتازة أو جيدة أو ضعيفة، وحال السحب التى قد تكون غير متواجدة أو خفيفة أو كثيفة، وحال الأمطار التى قد تكون منعدمة أو قليلة أو غزيرة، وحال الأمواج التى قد تكون ساكنة كالمرآة أو مرتفعة كالجبال ومتحركة ونشيطة. وفى كل الأحوال تبدو لوحة الغروب جميلة، فالسماء والسحاب تتزينان بألوان الطيف وهما يودعان الشمس، وقد يسكن البحر ويصبح كمرآة تعكس صورة تلك الأزياء أو تقفز أمواجه فى ابتهاج وتناطح برؤوسها السحاب وتُقبّل وهى تنزل وجه الشمس قبل أن يبلعه البحر، والهدير والصفير يصنعان لذلك المشهد الجميل سيمفونية تعد بمثابة موسيقى تصويرية. وليس ليل البحر مقترنا دائما بالخوف، ففى هذا الليل يرى راكب البحر شروق القمر الذى يبدو وكأنه ميلاد للأمل من أظلم رحم، أو قصة من قصص الخيال ترويها شهرزاد فى هذا الظلام، أو رؤية نورانية طيبة يراها الإنسان فى منام. وتكثر نجوم الليل فى سماء البحر بسبب البعد عن أضواء البر، مما يمكن العين من أن ترى أفضل.. حتى أن السنتيمتر المربع من السماء فى الظلام يتزين فى بعض الأحيان ببضع نجمات. وراكب البحر يرى فى النهار السمك الطائر، والدولفين اللاعب، وطائر النورس الذى هو للمبحر ملازم.. ويرى فى الظلام أنوار الملاحة للسفن والبواخر وهى تبدو للناظر وكأنها محمولة من قِبَلِ أشباح مجهولة. وليس كل وضع فى البحر يسر النفس، فراكب البحر لا يأمن الغدر.. فكما أن الحصان قد تعتريه فى لحظة من اللحظات حالة من الغضب والهيجان ويلقى براكبه على الأرض فى ثوانٍ.. فإن البحر ينقلب فى لمح البصر من هدوء الحال إلى ثورة وغليان ويبلع فى الحال السفن، وما فيها من ركاب فى مأساة تعمل كممحاة لكل ما سبق أن ذكرت من مشاهد جمال ومواطن إمتاع. ولا تمنع تلك المأساة الناس من معاودة الإبحار مثلما لا تمنعهم المصائب والابتلاءات من مواصلة الحياة.