رنات جرس الباب المتقطعة جعلتها تتوجه إليه مسرعة، فلما فتحته رأت رجلًا سمينًا وطويلًا، أسود لونه يقف مبتسمًا ويحمل صندوقًا يزعم أن زوجها أرسله إليها! فاعتذرت له عن عدم استطاعتها أخذه لأن زوجها لم يخبرها شيئًا عنه، فلما لم تفلح محاولاته لإقناعها باستلامه رحل فى الحال، فتنفست الصعداء وأغلقت الباب وأسرعت لتعود ابنها خالد المريض فى الفراش، فلم تكد تمر من الوقت برهة حتى رن جرس الباب مرة أخرى، ولما فتحته وجدت الرجل ذاته يحمل صندوقه ويناولها ورقة مطوية بعناية زاعمًا أنها رسالة من زوجها، فأخذتها وفردتها ثم ردتها له بضيق شديد وقالت له: «ليس هذا خط زوجى خليل رغم دقة تقليد التوقيع»! فوضع الرجل صندوقه على الأرض أمامه خارج البيت ورحل بسرعة البرق وهو يقول لها بحزم: «إن ضاع هذا الصندوق فليس لى شأن.. فهو الآن فى حوزتك أنت»! كما لو كانت تقف أمام فخ أخذت تنظر بعين الريبة والشك إلى الصندوق المكعب الشكل المتوسط الحجم والمغلف بغلاف رائع اللون، وطفقتْ تقترب منه بصعوبة بالغة وهى قلقة مترددة وتوجس منه خيفة، إلى أن صار بجوار قدميها، فمدت إليه ببطء كلتا يديها، ورفعته عن الأرض، كان ثقيل الوزن، حملته كما يحمل المكروب الهم والغم، وارتدت بسرعة إلى الخلف وقلبها بشدة يدق حتى دخلت البيت فوضعته على الأرض وأغلقت الباب على الفور، وجلست بجواره تبكى وهى لا تدرى ماذا يحوي! فلما توقفت عن بكائها تذكرت ابنها، فقامت كما يقوم العليل، وأخذت إليه تسير وهى تجر القدمين فوجدته يغطا فى نوم عميق فنامت بجواره فوق السرير. رأت فى منامها رجلًا ضخمًا يقف أمام باب بيتها يناولها صندوقًا خشبيًا فأخذته منه دونما أن تناقشه ظنًا منها أنه هدية، ودخلت به منزلها بسرعة ومشت تحمله إلى الشرفة، فجلست على أرضها ووضعته أمامها، ثم فتحته بعد أن بذلت جهدًا غير صغير فوجدته مليئًا بالطين! فأخذت تحفر فيه بأصابعها حتى ظهر لها كيس! ففتحته فإذا داخله ثعبان صغير! فألقته وأخذت تحفر من جديد حتى ظهر كيسٌ آخر صغير فيه ثعبان يشبه الأول إلى حد كبير! فألقته ثم أخذت تحفر من جديد، فلم تجد إلا أكياسا فيها ثعابين! ولُدِغَتْ من أحدها فى سبابتها اليمنى فسال منها دم قليل، فنظرت حولها فإذا بها تجد أرض شرفتها مملوءة بالثعابين! وفوجئت بزوجها يقف أمامها ويقول لها: «لا تقلقى من اللدغة فإن أكثر من تسعة وتسعين فى المائة من ثعابين مصرنا الغالية غير سامة»! استيقظت على يد زوجها تربت برفق على كتفها، وسألها عن صحة ابنه الصغير، ثم قال: «ما ذاك الصندوق الجميل؟!»، فبكت وأخذت تحكى له بالتفصيل وقطرات الدموع تتلألأ على وجهها الجميل، ما فعله الرجل السمين، فقال: «لماذا تبكين؟!» قالت: «لأنك حذرتنى من قبل من استلام أى شيء من أحد غريب.. وحسبى أنى ما قصرت وفعلت أقصى ما أستطيع.. وقد أدخلت الصندوق البيت حتى لا يضيع»، فقال: «كان الغرض من التحذير كما تعلمين هو أن عملى كمدير لإدارة الائتمان يحتم على اتخاذ كل احتياطات السلامة والأمان.. فقد يحاول عميل ليس عنده ضمير أن يلتف على القانون والدين فينتهك حرمة البيت بقصد أن يجعلنى من المرتشين حتى أيسر له السبيل لأكل حقوق الغير، وربما يكون قد فعل ذلك الرجل السمين.. فصبر جميل.. إن غدًا لناظره لقريب.. وسأعرف من هو بالتأكيد». استيقظ على صوتهما العالى ابنهما خالد المتغيب عن فصله الدراسى بالصف الثانى الإعدادى، فقال له أبوه: «كيف حالك أيها الغالى.. ارتد ملابسك بأسرع ما تستطيع لتذهب مع أبيك إلى الطبيب، فأنا مثلك مريض»، ففعل الصغير. وفى الطريق قال لأبيه: «أريد أن أشترى كرة»، قال أبوه: «كم ثمنها يا ترى؟!»، قال الابن: «جنيه واحد فقط لا غير»، قال الأب: «إذن أعدك بها أول الشهر»، فتفهم الصغير الأمر. وبعد الكشف والتشخيص قال لهما الطبيب: «إن الأمر هيِّن وبسيط فبمضادات حيوية وقليل من الأدوية الشفاء بأمر الله أكيد»، وأمسك بقلم جاف وورقة دواء من الأحبار خالية فملأها بأسماء أدوية وخط فيها خطًا قسم به الورقة إلى قسمين، ثم قال: «انظر يا أستاذ خليل، أعلى هذا الخط كتبت أدويتك أنت، أما أسفله فأدوية الصغير!»، فقال أبو خالد للطبيب: «أرجو منك أن تكتب أدويتى فى ورقة منفصلة عن أدوية ابنى ولك مقدما جزيل شكرى»، قال الطبيب: «طلب يسير»، وبدأ يكتب من جديد أدوية كل مريض منهما على حدة فى ورقة منفصلة واحدة. فلما خرجا من العيادة سأل خالد أباه عن سر طلبه الغريب من الطبيب، فقال أبوه: «لأننى سأسترد بمشيئة ربى تكاليف أدويتى من جهة عملى طبقًا لما تنص عليه لوائح قانون العمل بشأن علاج الموظفين العاملين مثلى، أما ابنى فعلاجه يجب أن يكون من مالى الشخصى فإن أخذته بالاحتيال من جهة عملى، فهذا يعنى أنى سرقت من المال ما ليس حقى، ومن يسرق قرشًا واحدًا فقط قد يسرق عشرة ومائة وألفًا وأكثر، ولقمة حرام يا خالد تمنع إجابة الدعاء أربعين يومًا، ومن يطب مطعمه يكن كما تقول السُنة مستجاب الدعوة». وفى طريق العودة قابلا (عَم) عطوة بائع الصحف العجوز الذى يمشى ويدور كل يوم فى شوارع وأزقة مدينة دسوق وهو يحمل المجلات والصحف بمشقة تظهر للعيان بوضوح، فأخرج أبو خالد من جيبه جنيهًا واحدًا أعطاه للعجوز، وهو يقول: «أريد صحيفة أخبار اليوم»، فلما ناولها له مشى على الفور ولم ينتظر ما بقى من قروش، فقال خالد لأبيه: «لقد نسيت أن تأخذ باقى الجنيه»، فقال له الأب بحب: «والله ما نسيت ولكنى بالباقى تصدقت»، فقال له الابن الذى اختلط عليه الأمر: «إن الباقى الذى تصدقت به هو ثمانية وتسعون قرشًا، وإن أضفت لها قرشين فقط لا غير لصارت الجنيه الذى طلبته منك!»، قال الأب: «اسكت يا بنى فإنك لا تدرى كيف تسير الدنيا؟!»، فصمت الصغير وهو يفكر بريب فى أمر ذلك السير! فى اليوم الجديد، وقبل أذان الظهر بقليل سمعت أم خالد لجرس الباب رنات متقطعة كتلك الرنات التى سمعتها بالأمس القريب، فجعلت هذه الرنات المقلقة صدرها يضيق، وقالت فى نفسها وقد تملكها الخوف: «ما أشبه اليوم بالأمس!»، ودق قلبها بقوة شديدة وهى توجس من الرنات خيفة! فلما فتحت رأت ما توقعت، الرجل الضخم الذى رأته بالأمس يقول لها غاضبًا وهو عن أنيابه مكشرًا: «أمرنى الأستاذ خليل أن أسترد الصندوق المظلوم بيننا أين هو؟!»، فالتقطته بسرعة البرق من فوق الأرض، حيث يقبع فى ذات الموقع منذ أن وضعته أمس! وقالت له بعزة نفس: «ها هو! فأمسك الرجل به وأخذ يقلبه بيده وهو يتفحص بهمة أوجهه الستة، ثم قال لها بحدة: «إن الصندوق لم يمسسه سوء، فهو محكم الغلق كما سلمته لك من قبل!»، فقالت: «نعم، بالطبع ما فى ذلك ذرة شك أو أدنى ريب»، قال: «ألم يحاول الأستاذ خليل فتحه ليعرف ما فيه؟! إذ ربما يغير رأيه الغريب!»، قالت: «إن كنت لا تعرفه فأنا أفضل من يعرفه، والله لن يغير رأيه مهما كان فى الصندوق ولو كان مال قارون!»، قال لها مندهشًا وهو يولى مدبرًا: «الأستاذ خليل رجل عجيب! هو لا يدرى بالتأكيد كيف الدنيا تسير!».