إعداد: أحمد صوان إشراف: سامح قاسم "ولقد قيل بحق أن التاريخ ظل الإنسان على الأرض بمثل ما أن الجغرافيا ظل الأرض على الزمان".. هكذا لخّص العالم والمفكر العبقري الراحل الدكتور جمال حمدان، المبدأ الذي بنى عليه موسوعته الأشهر "شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان"، والتي تناول من خلالها مصر كما رآها، وربط فيها تاريخ الأرض بحياة الإنسان، لتظهر من خلالها شخصية مصر ككيان حي رأى الكثير في عمره الطويل الذي امتد إدراكه منذ أكثر من سبعة الآف عام، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، ربما قد لا نستطيع عرض العمل كله في سطور، لكن يُمكننا على الأقل أن نُلقي الضوء مرة أخرى على فقرات من هذه الموسوعة التي تُعد أهم الموسوعات عن مصر في التاريخ الحديث. "وكما يصور "بيتري" شعب مصر فيقول: شعب مجد قوي، يعتريه الضعف كل بضع مئات من السنين- طبيعة الأشياء- فتتعرض بلاده للغزاة من الجنوب والغرب والشرق، فيتعرض هو لمؤثرات مختلفة، لكنه رغم ذلك ظل محتفظًا بطابعه وصفاته القومية وبشخصيته المتميزة بارزة المعالم". تحدث "حمدان" في موسوعته ذات الأجزاء الأربعة عن مصر، فوصف شعبها الذي لم يتغير رغم تغير العصور، واحتفاظه بطبيعته التي حاول كل من غزاها أن يُغير فيها، ووصف مصر بموقعها وتاريخها كقائدة للأمة العربية، وشعوبها، وأنها من حيث الجغرافيا والتاريخ فرض عليها موقعها هذه القيادة.. وأول ما تنفرد به مصر، ضخامة الحجم التي تجعل منها حجرًا شامخًا، فمصر وحدها اليوم ثلث العرب.. أو 27% بالدقة "أرقام 5 – 1969"، وهي بهذا تعادل المغرب العربى الكبير كله.. في تونس والجزائر والمغرب، وتكاد تعادل آسيا العربية، وكذلك فإنها تفوق أي دولتين عربيتين معًا.. من ناحية أخرى فإن ثانى أكبر دولة عربية لا تبلغ نصف مصر عددًا. أوضح "حمدان" كذلك أن موقع مصر ليس وحده الداعي للقيادة، ولكن ترابط شعبها عامل رئيسي في هذه القيادة، فبينما تتفكك الدول الأخرى تحت صراعات دينية ومذهبية وقبلية، يبقى المصريون كتلة واحدة كأرضهم، بعيدين عن التفكك، فيظل شعب مصر وحدة واحدة يلجأ إليها الجميع، وبها تتضاعف قوة العرب، وبدونها يسهل تشرذمهم، ولكن مصر لا تستمد ثقلها من الحجم الخام وحده، بل ومن تجانسها الشديد، فهي ليست حجرًا ضخمًا فقط، بل وحجر وحيد إلى ذلك كما قلنا؛ فوحدتها الجنسية واللغوية مطلقة، وأقلياتها الدينية تعد محدودة إذا قورنت ببعض البلاد العربية الأخرى، وكل من الأغلبية والأقلية على حدة لا يعرف التشيع أو التشرذم الطائفي، والكل يؤلف وحدة وطنية على درجة نادرة من التماسك في الوطن العربي، وباستثناء لبنان ربما، فإن مصر هي البلدة العربية الوحيدة التي لا تعرف القبائل ولا القبيلة، ولا مشاكلها السياسية والاجتماعية التقليدية. ولهذا فإن مصر بتجانسها ووحدتها تتحرك ككتلة واحدة عادة دون أن تعرف الانقسامات والشظايا التي تفكك كثيرًا من الشقيقات العربيات؛ مما يمنحها ثقلًا فعالًا يزيد عن ثقل عدة وحدات صغيرة لها نفس مجموع حجمها.. "وفي النتيجة فإن مصر أقوى قوة في العرب مرتين، مرة بمطلق حجمها، ومرة بتجانسها المطلق.. والنتيجة المنطقية لهذا كله أن مصر مركز الثقل الطاغي، وقطب القوة في العالم العربي، ينتشر ظلها وشبه الظل، بل والصدى بعيدًا في آفاقه، ومع أن المصريين لا ينتشرون بأي كثرة خارجها، فوجودها محسوس بقوة هناك، بينما يصعب المثل على غيرها من الشقيقات إلا بوجود فعلي لأبنائها وجاليتها المهاجرة فيها". تحدث "حمدان" أيضًا عن حدود مصر القومية والاستراتيجية، وأهمية البعد الجغرافي في الحفاظ على أمن مصر القومي، فأمن مصر من أمن أشقائها، خاصة سيناء باعتبارها الخط الحدودي الوحيد لمصر الذي تتحكم فيه قوى مُعادية، مُلخصًا كل الأبعاد في قوله "نستطيع أن نعبر عن الموقف الجيوستراتيجي كله بإيجاز وتركيز في سلسلة من المعادلات الاستراتيجية المحددة على النحو الآتي: "من يسيطر على فلسطين يهدد خط دفاع سيناء الأول.. من يسيطر على خط دفاع سيناء الأوسط يتحكم في سيناء.. من يسيطر على سيناء يتحكم في خط دفاع مصر الأخير.. من يسيطر على خط دفاع مصر الأخير يهدد الوادى". وتأتي أهمية قناة السويس في كتابات "حمدان" باعتبارها المحور الجيوستراتيجي الذي تتحكم فيه مصر في جزء كبير من حركة الملاحة العالمية، ويربط بها المصريون الشرق بالغرب، فكما هي شريان للرخاء هي كذلك مطمع للعالم كله، فالجميع يخشى أن يتوقف هذا المجرى الملاحي المهم كما حدث في أعقاب الاحتلال الإسرائيلي لسيناء، "ولا شك أن القناة التي اختزلت كل موقع مصر الجغرافي والاستراتيجي أو جوهرة في شريط مائي حتى أصبح مرادفًا للقناة أو أوشك، لا شك أنها جددت شباب موقعنا، لكنها أصبحت بوابة ذهبية تجاريًا، فلم يعد موقع مصر أخطر موقع استراتيجي في العالم العربي وحده، وإنما في العالم القديم برمته على أرجح الظنون". أشار المفكر المصري كذلك في كتاباته إلى هموم المصريين الذين ألقوها عقودًا دون حل، داعيًا الأجيال المُتعاقبة إلى كسر الدائرة التي تهبط بالبلاد يومًا بعد الآخر، لأن كل جيل يترك الحل لمن تلاه "المأساة الحقيقية في ذلك أن مصر لا تأخذ في وجه هذه الأزمات الحل الجذري الراديكالي قط، وإنما الحل الوسط المعتدل، أي المهدئات والمسكنات المؤقتة، والنتيجة أن الأزمة تتفاقم وتتراكم أكثر، ولكن مرة أخرى تهرب مصر من الحل الجذري إلى حل وسط جديد، وهكذا". وأكد "حمدان" في كتابه أن الوسطية هي خير دليل لهذه الأمة "وإذا كان لهذا كله مغزى، فهو ليس أنها تجمع بين الأضداد والمتناقضات، وإنما تجمع بين أطراف متعددة غنية وجوانب كثيرة خصبة وثرية، بين أبعاد وآفاق واسعة، بصورة تؤكد فيها ملكة الحد الأوسط وتجعلها سيدة الحلول الوسطى، تجعلها أمة وسطا بكل معنى الكلمة، بكل معنى الوسط الذهبي، ولكن ليس أم نصف! وسط في الموقع والدور الحضاري والتاريخي، في الموارد والطاقة، في السياسة والحرب، في النظرة والتفكير.. إلخ".