فى «بيت السحيمي»، بالقرب من حى الحسين، وعلى مدار أيام الشهر الفضيل يمتعك رجال فرقة «النيل للإنشاد الديني» حق المتعة، لتكتشف مصادفة أنك صوفى ورع كان ينقصك زيارة واحدة للمكان، فهناك تجد من الشفافية ما يسمح لروحك بأن تري، وبين دقات عازف إيقاع محترف وآخر ينفخ الحزن من ناى شرقى قديم، ستجد قلبك يرسل أنات خفيفة تدغدغ مشاعرك حبًا فى رسول الله وآل بيته، كل هذا وأكثر تصبغ به حواسك فى ليلة صوفية رائعة برفقة مجموعة من المنشدين يجيدون تأهيلك لحالة من التجلى، تنعش كل ما هو روحانى بداخلك، وتفتح أمامك طاقات نورانية لا آخر لها... تجلّ الآن فأنت بين بسطاء يذوقون وإياك لذة الصلاة على النبى ونساء يرسلن زغاريدهن إعجابًا بوصلات المديح. هكذا اعتادت فرقة «النيل للإنشاد الديني» منذ أن أسسها رائد الفن الشعبى المعاصر المخرج عبدالرحمن الشافعى فى الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية للتواصل مع محبى الإنشاد فى إطار يتناسب وقدر المنشد الدينى بعد أن كان متنفسه الأوحد يقتصر على الحفلات الخاصة وموالد أولياء الله الصالحين. «النيل»، وبعد أن انبثق منها فرقة مشابهة تحمل اسم «الحضرة الصوفية» أصبحت على رأس أبرز الفرق المصرية الراعية للمأثور الصوفى والديني، كذا تحوي55 فنانا اجتمعوا من شتى محافظات المحروسة، ويمارس فنانوها مختلف أنواع المديح سواء «الذكر» الشعبى التقليدى أو الإنشاد الصوفى الخالص، فضلا عن وصلة «التنورة» للراقص مصطفى سينا، فالأخير يختتم الليلة باستعراض فلكلورى ذي طابع صوفى فلسفى، إضافة إلى الموسيقى والغناء الحركى. ويؤدى عازفو الفرقة ألحانهم على آلات موسيقية تقليدية قديمة مثل الطبول والربابة والمزمار وآلات النفخ وكلها تصنع من خامات طبيعية كالبوص وجوز الهند والشعر والجلد والخشب. «جودة هيكل، محمد جمال، محمد المصيلحى، رمضان شلبي، بدر الأسواني»، كلها أسماء لمنشدين بالفرقة ولكن الشيخ محمد جمال والذى تخرج فى كلية الهندسة جامعة القاهرة والمنشد الأصغر سنا بين أعضاء الفرقة، كان يجلس منفردا يجهز لوصلته ويردد وهو يذوب عشقا: «وخجلت من عجزى مع السباق/ فبكت عيوني/ قلت يا نفسى الحب لا يخفى عن العشاق/ فو الله إنى أحب محمدا حبا به تطوى السماء والأرض كالأوراق». الشيخ محمد جمال وبعد أن فرغ من بروفته، أوضح أنه انضم لفرقة «النيل» فى مرحلة مبكرة من عمره وتحديدا بعد أن أنهى دراسته الجامعية، لافتا إلى أنه يمارس الإنشاد الدينى باعتباره هواية فضلا عن عمله الأساسى باعتباره مهندسا معماريا. أما الشيخ بدر الأسوانى والذى أنهى وصلته للحظة تاركا مكانه على المسرح للمنشد الأصغر سنا، مسح جبينه ووجهه، وقال كلاما طيبا عن الصوفية وماهيتها، مشيرا إلى أن هناك أقوالا كثيرة فى هذا الأمر أحدها يرجع التسمية إلى «أهل الصفة» ممن كانوا على نهج الصوفية ويمارسون التصوف فى مراحله الأولى تحت مبادئه الأساسية «السر، البر الوفاء، الإخلاص»، وأن هؤلاء اشتهروا بالعزلة وارتداء الملابس الصوفية الخشنة دليلا على التقشف وزهد رفاهية الحياة ومدى ارتباطهم بما هو أسمى فى علاقتهم برب العالمين. ويضيف:«أغلب الأولياء والسلف الصالح عرفوا التصوف بأنه وفاء العبد مع الله فى طاعة أوامره والابتعاد عما نهى عنه بشكل يجعل العبد فى حالة استسلام تام لكل ما يرضى الله، بالإضافة إلى اجتناب المنهيات ومجاهدة النفس». وأخيرا يأتى دور راقص «التنورة» مصطفى سينا، فالرجل بعد أن استغرق نصف ساعة كاملة ليرتدى جلبابه الواسع المزركش دخل ساحة الإنشاد بثوبه المعطر ممسكا بزوج من الصنوج الدائرية المصنوعة من النحاس، وبدأ يضرب القطعتين ببعضهما البعض إلى أن تمايل رأسه بخفة وراح جسده يدور يمينا وشمالا فى حركات دائرية، وكأنه يرسم بها هالات نورانية بمصاحبة مادحي الرسول ورواد المواويل المستوحاة من الأصول الشعبية، والتى تدور حول الصداقة والسلام والمحبة.