حزنت علي رحيل هيجو شافيز رئيس فنزويلا السابق، ليس فقط لأن السرطان هزمه وصرع إرادته التي كانت تبدو فولاذية، بل ولأني تعرفت عليه أيضا عن قرب خلال القمة العربية اللاتينية الأولي في برازيليا عام 2005، وسحرني حضوره اللافت وهو من ذلك النوع الذي انقرض تقريبا في العالم المعاصر! يتمتع شافيز بشخصية بها خصال ?الكريزما? التي تشبه تلك التي تدغدغ أحلام الشعوب عن الزعيم المخلص المنحاز لقضايا الغالبية من أبناء شعبه، وتشبعه بصفات الزعيم الروحي بطل الاستقلال سيمون بوليفار مع خلطة ساحرة من الزعيمين جمال عبدالناصر وغاندي، إضافة الي أني لمست صدق مواقفه المطالبة بإنصاف الشعوب المستضعفة والوقوف الي جانب الحقوق العربية بقوة، تفوق مواقف بعض الزعماء العرب في عصر الانحطاط العربي! كان الحوار صدفة وبه الكثير من الحظ الذي حالفني، حيث كان شافيز يهم بالنزول من سيارته في موكب بسيط ودون اجراءات مبالغ فيها، بينما كنت أستعد للخروج من باب الفندق، عندما التقت أعيننا فخاطبته بأني أتمني عمل حوار معه.. فسألني عن هويتي، وبمجرد أن علم أني عربية أشار لي بيده لكي أتبعه مرحبا بالحديث إلي صحفية عربية.. سرت إلي جانبه وهو يتابع قفشاته بخفة الدم المصري.. إلي أن صعدنا الأسانسير إلي بهو جناحه، وهناك لاحظت التواضع الشديد في مكان إقامته، فلا أثاث مبالغ فيه وكل شيء بسيط ويشبه الغرف التي نقيم بها نحن الصحفيين وبقية أعضاء الوفود، لم تُستبدل الستائر علي النوافذ ولا قطع الموبيليا تم تغييرها، حتي بوكيه الورد علي الطاولة بنفس زهوره وألوانها.. أقول ذلك لأني استمعت الي بعض الوفود العربية، تتذمر من مستوي الفندق المتواضع الذي يحتضن القمة وكيف قامت المراسم الخاصة بالملوك، بل وحتي الرؤساء العرب، بتجديد كل معالم الأجنحة قبل وصول وفودهم بعدة أيام وتكلفوا من أجل ذلك مبالغ طائلة، تكفي إعادة إعمار بغداد أو غزة! وما أذكره من الحوارالذي أجريته، أن شافيز دعا لاستخدام عملة بديلة احتياطية جديدة بدلا من الدولار.. وكان يتقد حماسة وغبطة بآفاق التعاون التي تلوح في سماء مجموعة دول أمريكا الجنوبية من جهة، والمجموعة العربية من جهة أخري، كما أنه يعول علي تعزيز تعاونهما وتنسيق جهودهما في المجالات السياسية والاقتصادية، مشددا علي الأهداف الطموحة التي من الضروري استغلالها لتحقيق رغبات وآمال دول وشعوب المجموعتين، في مواجهة الاجتماعات والمؤتمرات التي تعقدها الدول الكبري الصناعية، وخططها التي تأتي غالبا علي حساب بقية دول العالم.. وطالب دول المجموعتين بالوحدة بينها لكون ذلك يولد القوة القادرة علي تحقيق ما يعد مستحيلا.. وأحضر شافيز للمؤتمر الكثير من الخطط والاستراتيجيات وجدول أعمال طويل للنهوض باقتصاديات الدول العربية واللاتينية، من ذلك إلغاء التأشيرات، وتسيير خطوط جوية مباشرة تبدأ بدبي وبيروت أسبوعيا مع عواصم الأرجنتين والبرازيل وفنزويلا. وأعلن إقامة مجالس أعمال لتنشيط حركة الاستثمار والتجارة مع انشاء مصرف مشترك لتمويل تلك العمليات وتسهيل فتح الاعتمادات، وتكون الركيزة لهذا التعاون الجاليات العربية المقيمة منذ زمن في دول أمريكا الجنوبية.. أما الشق السياسي فقد أعلن الرئيس الفنزويلي وقوف بلاده الي جانب الحقوق العربية ومنها قضية الشعب الفلسطيني، وندد بما تقوم به إسرائيل من أعمال فاضحة في الأراضي الفلسطينية ومن ذلك عدوانها المتكررعلي غزة الذي تفوق بشاعته كل مرة ما سبقتها من مرات.. كما سخر من ازدواجية المواقف الدولية في التعامل مع القضايا العادلة للشعوب وشدد علي رفضه التام لها وطالب في المقابل بمحاسبة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الذي أباد شعب العراق معلنا عن تبنيه لحملة لاعتقاله وتقديمه للمحاكمة الجنائية! كان شافيز ينتفض وتتحرك كل قسمات وجهه، وهو يتحدث عن العالم العربي فاستشعرت انتماءه وانحيازه لقضاياه بشكل غير مسبوق، وكأنه ولد ورضع حبه في أجواء الحسين والسيدة بالقاهرة، وبيت لحم في القدس، وشارع الرشيد في بغداد.. كأنما خاض حروبا مع أبناء العروبة في 56و67و73 حيث تفور دماؤه بالغضب كلما جاء ذكر اسرائيل وتحالف الهيمنة الاستعمارية الغربية معها التي تكبل تقدم شعوبنا.. تحدث طويلا عن الطريق الي استقلال القرار السياسي، عن القوي المسيطرة علي مقاليد العالم وموارده، وكيف تشترك الدول العربية واللاتينية في مواجهتها لتحديات خطيرة متشابهة، تمثلت في مخاطر الجوع والفقر وشح المياه وسيادة الموروث القديم المتخلف وغياب الهياكل الاقتصادية وافتقاد القدرات اللازمة لمعالجة تركة الماضي والاندفاع بقوة نحو تحقيق التنمية. كما تحدث شافيز عن اننا نتشاطر أيضا الرغبة في الخروج من مأزق التخلف، والاندماج الاقتصادي والحضاري بهذا العصر.. وهو يعتبر ان أقدارنا وضعت شعوبنا معا في صف واحد تصارع دون أن تختارذلك القدر.. وشرح رؤيته التي تقترح نظرية ثالثة تدمج بين محاسن ?الشيوعية الكريهة? و?الاشتراكية غير الواقعية? و?الرأسمالية المتوحشة? وذلك في محاولة لإجراء تصحيح في بلد يضم الكثير من المحرومين مقارنة بالطاقات البترولية الضخمة. مر علي تلك الذكريات سبع سنوات، ومات شافيز، ولم يتحقق شئ من تلك الأحلام الوردية بل أظن أن حالنا أسوأ مما كان، ونحتاج شافيز ?عربي? ينقذنا من كبوتنا ويستلهم من النظرية الثالثة منهجا لحلول مشاكلنا!