يتعين علي القوي السياسية والإسلامية في مصر أخذ ما يحدث من تطورات الآن في الاعتبار وبالتالي يتعين علي الجميع نبذ الخلاف حول موضوع المبادئ الحاكمة للدستور والتي تهدف في الأساس لبناء دولة مدنية حديثة قائمة علي المساواة والعدالة الاجتماعية وتحقيق تمثيل متوازن لكل القوي السياسية في البرلمان القادم يجب علي الجميع تغليب العقلانية لتصبح مصلحة مصر فوق أي مصالح ذاتية ومن ثم فالتكاتف مطلوب اليوم ليسود التوافق بين التيارات السياسية والدينية علي مبادئ حاكمة للدستور فلا يمكن للقوي الإسلامية أن تحتكر الساحة وتفرض أجندتها علي القوي السياسية الأخري التي تتطلع إلي دولة مدنية اتساقا مع الهدف الذي تبنته ثورة 25 يناير. المشهد في الساحة المصرية اليوم تغلفه نغمة الخلافات الأيديولوجية ويظهر التنافس جلياً بين التيار الإسلامي بتفريعاته السلفية والصوفية والإخوان المسلمين وبين التيار المدني الليبرالي أو العلماني وبالتبعية يحتدم النقاش حول المبادئ الدستورية الحاكمة، فعلي حين يعارضها الإسلاميون بشدة فإن الليبراليين يؤيدونها من منطلق التأكيد علي مدنية الدولة وفي معرض الرد علي الدولة الدينية التي يخشي أن يسعي الإسلاميون إلي ترسيخها في أي دستور مقبل إذا ما فازوا في الانتخابات القادمة ومن ثم يمارسون فرض ما يريدون في ظل الاعتقاد بأنهم التيار الأقوي وأن الفرصة متاحة أمامهم للفوز بأغلبية المقاعد في مجلس الشعب وهو أمر من شأنه أن يثير قلق الليبراليين خشية من أن يمارس الإسلاميون سطوتهم ويفرضوا أيديولوجيتهم ويسقطوا من حساباتهم كل معايير الديمقوقراطية. وقد يقول القائل علام الخشية من الإسلاميين وأمامنا تجربة ثرية في المنطقة يجسدها حزب "العدالة والتنمية" في تركيا؟ فرغم أنه إسلامي إلا أنه لم يطمس العلمانية ومازالت تركيا تعيش في رحاب علماني والسبب أن حزب "العدالة والتنمية" اعتمد سياسة ترتكز علي العمل لترسيخ حكمه واحتكم دوما للدستور وصناديق الاقتراع ومن ثم جاءت ممارساته داعمة للديمقراطية وقيمها فوجدنا كيف أنه أنهي سيطرة المؤسسة العسكرية علي الحكم وسحب صلاحية المحكمة الدستورية في حل الأحزاب. وبالتالي يظل القياس مع الفارق بينه وبين الإسلاميين في مصر، فالتيار الإسلامي في تركيا تعرض للاضطهاد ووصل إلي الحكم بعد صراع استمر سنوات طوال، ولكن عندما جاء حزب "العدالة والتنمية" اعتمد العمل سبيلاً للتغيير وبفضله باتت تركيا السادسة اقتصاديا علي المستوي الأوروبي والسادسة عشرة علي مستوي العالم رغم أنها لا تملك نفطا أو غازا ولكنها اعتمدت علي الأساليب الإدارية الحديثة وتبنت منهجا يرتكز علي تشجيع قيم العمل وجذب الاستثمارات الخارجية. وعلي النقيض من حزب "العدالة والتنمية" ارتبط العلمانيون في تركيا بالفساد والأكثر من هذا أنهم أغرقوا الدولة في التبعية وعاشوا في وهم الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي، ووصل الاقتصاد في ظلهم إلي الدرك الأسفل حيث ارتفعت الديون وزادت معدلات التضخم زيادات مطردة وبالتالي ستيعين علي الإسلاميين اليوم في مصر -إذا أرادوا النجاح- أخذ تجربة تركيا (العدالة والتنمية) في الاعتبار والاستفادة منها ما أمكن خاصة تلك التي تتعلق بالجانب الاقتصادي لاسيما وأنه هو الذي يشكل أزمة متفاقمة في مصر اليوم والتي ستنعكس بالسلب حتما علي الشعب فيما إذا استمرت غير أن العبرة هنا لن تكون في الشعارات والحديث عن الإنفراج والرخاء وإنما العبرة ستكون بتطبيق ذلك علي أرض الواقع من خلال سياسات تقود بالفعل إلي تحفيز قيم العمل وجذب الاستثمارات الخارجية وفتح الأسواق للمنتجات المصرية بمختلف أشكالها. ولا شك أن مصر اليوم تعاني من أزمة حادة ظهرت ملامحها في تردي الوضع الاقتصادي بشكل غير مسبوق، فخلال السبعة أشهر التي أعقبت ثورة 25 يناير تراجع دخل مصر السياحي إلي نحو الثلث، فبعد أن كان يقدر بنحو أربعة عشر مليار دولار تراجع بنسبة 60% الأمر الذي انعكس بدوره علي تحويلات المصريين في الخارج بالإضافة إلي هروب عشرات مليارات الدولارات من الاستثمارات الخارجية، إلي جانب تأثيرات الأزمة المالية العالمية الناجمة عن قضية الديون الأمريكية وهو ما انعكس بالسلب علي الأسواق المالية المصرية. ولابد من التنبيه هنا إلي وجوب أخذ الحذر من المرحلة القادمة ذلك أنه إذا استمرت النخبة السياسية منهمكة في خلافاتها الايديولوجية مع استمرار التدهور في الوضع الاقتصادي فإن هذا من شأنه أن يفاقم الأمور بحيث تصل إلي مرحلة تؤدي إلي ثورة الجياع ويتعين في الوقت نفسه وجود حكومة قوية تأخذ بأعنة الأمور وتتسم بالحزم في أدائها ذلك أن أداء حكومة عصام شرف حتي الآن يعد أداء ضعيفا يتعاطي مع قضايا الداخل والخارج بخجل بالغ، أداء لا يتناسب مع طبيعة المرحلة ولا يتناسب مع حجم مصر ودورها.