مما استعرضناه في الجزء الأول من مقالنا نخلص إلي أن الدين المسيحي يفصل السياسة عن الدين، وأن الإسلام كدين هو الآخر يفصل السياسة عن الدين.. لكن الواقع التاريخي كان شيئاً آخر. ففي العصور الوسطي وما قبل ظهور الديمقراطية كنظام سياسي كانت السياسة تختلط بالدين في ممالك أوروبا وأساء ذلك كثيرا إلي الدين وإلي السياسة وإلي العلم والثقافة. فقد بدأ العالم الحديث يتقدم لأسباب كثيرة، وظهرت نظريات في الفلك تتحدث عن كروية الأرض، ودورانها في فلك الشمس، وهي حقائق يؤمن بها الآن أصغر تلميذ في مدارس الدنيا.. لكن الكنيسة في أوروبا رأت في هذه النظريات كفراً وإلحاداً وإنكاراً لنصوص دينية كما فهمتها.. ويتعين إعدام صاحب هذه النظريات أو أن ينكرها ويعدل ويتوب. كما اختلط الدين بالسياسة في تاريخ الحكم في المجتمعات الإسلامية القديمة وعلي مدار العصور الوسطي.. فأساء كثيرا إلي الدين وإلي السياسة وإلي العلم والثقافة. فالخليفة المأمون كان حاكماً مستنيرا يشجع العلم والعلماء.. وفي عهده كان المعتزلة يقولون بخلق القرآن الكريم.. وغيرهم يقول إن القرآن قديم فهو كلام الله وصفة من صفاته وليس مخلوقاً. هو خلاف فلسفي وديني لا ضرر فيه ولا ضرار.. والخلاف ينبغي ألا يفسد للود قضية. لكن الخليفة المأمون انحاز لقضية خلق القرآن.. وهو في انحيازه هذا وباسم الدين شن حملة شعواء بسلطان السياسة ضد أصحاب المذهب الآخر وكان منهم الإمام أحمد بن حنبل حيث قبض عليه وأذاقوه فنون العذاب حتي يرتد عن رأيه. بعد الخليفة المأمون جاء خليفة آخر وانقلب علي رأي المأمون ورأي المعتزلة وانحاز إلي رأي من يقول إن القرآن الكريم قديم.. وصار يطارد المعتزلة فيما ذهبوا إليه.. ذلك مثال. مثال آخر من عهد الفتنة الكبري في صدر الإسلام.. فالإمام علي بن أبي طالب هو إمام المتقين، وهو ابن عم الرسول "صلي الله عليه وسلم".. وهو أول من أسلم من الشباب، وزوج السيدة فاطمة الزهراء ابنة الرسول "صلي الله عليه وسلم".. تولي الخلافة.. فاعترضت السيدة عائشة أم المؤمنين وأحب زوجات الرسول "صلي الله عليه وسلم" إليه، وانضم إليها اثنان من المبشرين بالجنة وراحوا يقاتلون الإمام علي بن أبي طالب في موقعة الجمل.. فأين الدين وأين السياسة في هذه الواقعة؟! وبعد ذلك نشبت موقعة صفين بين معاوية وهو واحد من كبار الصحابة وأحد كتبة الوحي وبين الإمام علي بن أبي طالب.. فأين الدين وأين السياسة في موقعة صفين؟! لكن الدين تدخل بعد اللجوء إلي التحكيم بين علي ومعاوية.. فرأي الخوارج أن قبول التحكيم كفر وإنكار للدين وخروج عن كتاب الله.. وأنه لابد من قتل الكافرين جميعاً.. وهم في رأيهم علي، ومعاوية، وعمرو بن العاص.. وفعلا تم قتل الإمام علي متهما بالكفر والخروج عن الملة!! هذا نتاج خلط الدين بالسياسة وما أدي إليه علي مراحل التاريخ القديم والوسيط في الإسلام والمسيحية علي السواء رغم أن الإسلام والمسيحية بريئان من مساوئ التاريخ.