معروف أن منابع النيل تنقسم إلي قسمين رئيسيين.. أولهما منطقة هضبة البحيرات وما حولها التي تغذي النيل بعد بوروندي وروندا وتنزانيا وكينيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ثم اثيوبيا التي يأتي منها النيل الأزرق من مرتفعات الحبشة ثم يلتقي النهران في السودان وبعد ان تأخذ السودان حصتها او احتياجاتها من المياه يصب الباقي في نهر النيل مكونا إيراد النهر الوارد إلي مصر وهو يزيد وينقص حسب معدلات الأمطار التي تسقط علي دول المنبع. غير أن هناك منطقة قلما يلتفت الكتاب إليها رغم أهميتها الكبيرة التي تجعلها بحق "منبعاً ثالثا" لنهر النيل.. تلك المنطقة هي اقليم الغابات المطيرة وأقليم السدود في منطقة بحر الجبل بجنوب السودان حيث الأمطار الغزيرة التي تتراوح معدلاتها من 1300 ملم إلي 1500 ملم في السنة علي مساحة تصل إلي 600 ألف ميل مربع، تضيع هباء ويتلاشي ما يزيد علي 15 مليار متر مكعب "بتقدير الخبراء" بسبب تجمع السدود الطبيعية من نباتات السافانا والبوص والبردي وغيرها.. والتي أدت إلي تباطؤ جريان الماء القادم من الهضبة الاستوائية، ويتحول مجري النهر من الضيق الشديد في بعض المناطق بأوغندا ليفيض علي ضفاف النهر في جنوب السودان ويتسع إلي أن يصل عرض النهر إلي 250 كيلو مترا في صورة مستنقعات واسعة.. تساعد علي سرعة البخر! وتمثل بيئة خصبة لتكاثر البعوض والذباب وغيرهما من الحشرات الضارة، مما يؤدي إلي انتشار الأمراض وصعوبة الاستفادة من مساحات شاسعة من أخصب الأراضي والمراعي. وقد تنبهت مصر والسودان منذ مرحلة بناء السد العالي إلي أهمية المياه الوفيرة في هذه المنطقة فبدأ التخطيط لشق قناة جونجلي للاستفادة من جزء كبير من المياه الضائعة بين المستنقعات. وكان مقدرا أن تنتهي المرحلة الأولي لهذا المشروع مع بداية عام 2000 ليضيف حوالي 5 مليارات متر مكعب لمصر والسودان تزيد في المراحل التالية ولكن تعثر المشروع بسبب الحرب الأهلية في جنوب السودان، وحسب تصميم القناة فالمفروض ان تتفادي منطقة السدود ومنطقة المستنقعات الواسعة من قنوات، وبحيرات وسدود تصب فيها من بحر الزراف، وبحر الغزال الذي يأتي من جنوب غرب السودان. ان أقل من نصف كمية المياه التي تدخل منطقة السدود سنويا تصب في النيل الأبيض بينما يضيع ما تبقي بين تبخر أو تسرب داخل الأرض. وقناة جونجلي حسب تصميمها المفروض أن تحمل جزءا من المياه الضائعة نحو مجري النيل الأبيض، ويبلغ طولها 360 كم من مدينة بور إلي مدينة ملكال، القناة سوف تتحكم في انسياب المياه في النيل الأبيض بكفاءة عالية تزيد نسبة العائد 5 - 7% داخل السودان ودلتا مصر وتؤمن استخدامها في مشاريع الري في البلدين. بالاضافة إلي ذلك سوف تؤمن القناة للجنوب أراضي شاسعة يمكن استخدامها للمراعي والمواصلات وزراعة مئات الآلاف من الأفدنة ومن المؤكد سوف تساعد في اختفاء اماكن توالد الناموس وديدان الكبد والذبابة التي تصيب الماشية والفيروسات. وقد قامت الحكومتان المصرية والسودانية باقتراض 100 مليون دولارمن البنك الدولي لاحياء المشروع، وكان الراحل "جون قرنق" رئيس حكومة جنوب السودان السابق قد حصل علي شهادة الدكتوراه من جامعة أيوا الأمريكية عام 1981 بعنوان "أثر قناة جونجلي علي السكان المحليين لجنوب السودان". لكن اشتعال الحرب الأهلية في السودان أدي إلي وقف الحفر في قناة جونجلي عام 1984 ولم يستأنف العمل بها حتي عام 2008. تخيلوا.. كل هذا الخير الضائع.. والأرض الغنية الخصبة ويعاني أهالي الجنوب من الفقر والمرض ويعيش المصريون تحت حد الفقر المائي..! التكامل الغائب.. والضروري ا