هل سبق أن وقفت في طابور لقضاء أي مصلحة وفوجئت أن هناك من يأتي من الخلف ويتجاوزك ويأخذ مكانك و"حقك" ويحصل علي حاجته قبلك رغم أنك الأولي بالحصول علي الخدمة؟! يحدث ذلك كثيرا.. ولو اعترضت علي هذا السلوك غير الحضاري، فانك تجد العشرات من المواطنين ينظرون إليك باستغراب شديد، بل قد يشيرون إليك بالبنان وكأنك من المجاذيب! وقد تضطر أمام الدهشة من اعتراضك علي هذا الخرق لحقك أن تسكت، وتتغاضي عن أخذ دورك ومكانك. نعم.. يتجه أي مواطن إلي إدارة معينة صباحا للحصول علي خدمة، وليس في نيته أو حساباته أن ينفعل، أو يثور لأنه ببساطة يريد أن ينجح في الحصول علي تلك الخدمة في أقل وقت ممكن، وبدون مشاكل أو تعطيل. لكن من النادر أن يقضي مصلحته في هدوء، أو حتي أن يحظي بمعاملة كريمة تليق به كمواطن وإنسان، يستحق أن يشعر بمواطنته في بلده. لذلك فإن الناس علي اختلاف مستوياتهم الاجتماعية، والأدبية يسعون للبحث عن "واسطة" قبل الذهاب إلي الإدارة المعنية، حتي يضمنوا المعاملة اللائقة، وقضاء المصلحة، أو انهم يحضّرون الإكرامية التي سوف يدفعونها في يد الموظف، أو يضعونها في "الدرج" المفتوح.. ومن لا يذهب وهو مطمئن إلي واسطته أو مجهز لإكراميته، فقد جني علي نفسه! ولأني من المعاندين الذين يؤمنون بحق المواطن العادي، في الحصول علي الخدمة من أي مصلحة أو إدارة، وأن ذلك واجب علي الموظف، وليس مَنَّاً منه علي أحد، فتراني أذهب مصممة علي الحصول علي حقي، وبدون "وسائط".. فمادمت مواطنة صالحة، أو أعتقد بذلك، وأدفع الضرائب للدولة، ولا آخذ مقابلا لذلك في تعليم حقيقي لأبنائي، أو علاج وصحة لعائلتي، أو طريق آمن أو.. مادمت من المواطنين الصالحين فلابد أن أصمم، ويصمم غيري علي الحصول علي الخدمة التي نحتاجها، ودون دفع إكراميات، أو رشاوي، ودون وسائط أيضاً.. ولابد أن يعرف جيدا كل موظف أنه بفضلي وبفضل غيري، يتقاضي مرتبه من حصيلة الضرائب التي يدفعها المواطنون.. أما إن مرتبات الموظفين ضعيفة ولا تكفيهم "عيش حاف".. وهي كلمات استعطافية، رغم انها صحيحة مائة بالمائة، إلا انها مشكلة تتجاوزني وتتجاوزنا جميعا، ولا يمكن أن تعلّق في رقبة أحد، بل في رقبة الحكومة، فذلك دورها ومسئولياتها. لكن التواطؤ بين الموظف والحكومة علي أن يحصّل ما يستكمل به الموظف شهره واحتياجات أسرته، من الإكراميات أو الرشاوي فهذا وضع لابد أن يختفي ونحن في القرن الحادي والعشرين. وإذا كنت استطيع أن أحصل علي "واسطة" بحكم أني صحفية "علي قدي"، فغيري لا يستطيع، وكثيرا ما يلومني الأصدقاء علي "نشفان دماغي" وعنادي، لأن الأمر قد يحتاج لمجرد إجرائي تليفون إلي الباشا الفلاني، والبيه العلاني، رئيس مصلحة، أو مدير إدارة أو حتي مسئول قسم حتي تقضي حاجتي.. وأنا في مكاني، أشرب شاي أو قهوة، في مكتب الباشا، وأنعم بالتكييف، أو بالتدفئة.. لكن أرفض معاملة "السوبر مواطن" ومستعدة أن أضيع وقتا طويلا في الحصول علي ورقة رسمية، لا تحتاج إلا دقائق، ومستعدة أيضا إلي "وجع الدماغ" و"العكننة"، لأني أدرك أنه إذا لم نفعل نحن ذلك فلن ينصلح الحال، وسيظل الوضع علي ما هو عليه في إداراتنا.. ولن أدعي أن سلوكي هذا كفيل بإصلاح الوضع، أو إصلاح الكون كما يقال، لكن السلوك الخاطئ يحتاج إلي جرأة المواجهة، وتضحية ببعض الوقت، وبعض الجهد. والحقيقة أن مشكلاتنا ليست مع بيروقراطية الإدارات المصرية فقط، وخاصة تلك التي تتعامل مباشرة مع المواطنين، بل المشكلة الأكبر مع غيرنا من المواطنين "السوبر" الذين يتعدون علي حقوقنا، وتعودوا علي هذا السلوك غير الحضاري من أجل قضاء شئونهم بسرعة. فتري المواطن السوبر يأتي من خلف الطابور ويتجاوز ويأخذ دور غيره، دون أدني شعور بأنه ارتكب خطأ، بل ودون حتي الاستئذان أو الاعتذار بأنه أخذ حقك، فمعه الواسطة السحرية أحيانا، ومعه أحيانا أخري جيبه المليء بالمال الكفيل بفتح كل الأبواب الموصدة، أو معه الاثنان في الغالب. وسأروي لكم ماذا فعلت في إحدي الإدارات مؤخرا.. ولا شك أنكم ستقولون علي الفور إني مصابة بالجنون والهستريا، مثلما سمعت بأذني ذلك من عدد من الموظفين والمواطنين. لقد انتظرت دوري في الطابور الطويل، بإحدي الادارات، وكان الطابور متوقفا بسبب إفطار الموظفين "الجماعي".. وبعد الافطار بالهناء والشفاء شربوا الشاي، هنيئا مريئاً.. ولكن الطابور لم يتحرك.. إن الموظف ذهب إلي بيت الراحة.. ثم ذهب إلي الوضوء استعدادا لصلاة الظهر.. فهاج الناس وماجوا وعلت الأصوات وكنت أقود الثورة بكل فرح وسرور فظهر الموظف الموقر كالديك ينفش ريشه، وفجأة فوجئنا جميعا بمواطن سوبر يتجاوزنا جميعا في الطابور، ويوسع له الطريق إلي الشباك ليستكمل اجراءاته، دون أن يشعر بأي حرج أمامنا.. ويبدو أن الناس تعودوا علي هذا السلوك فلم يعترض أحد وكانوا فقط يطمحون أن يستكمل خدمته بسرعة حتي يتحرك الطابور ويصل الدور إليهم.