لشد ما أرقتني قضية الاغتصاب التي كتبت عنها في هذا المكان، منذ عدة اسابيع، واعترف انها شغلت بالي طوال تلك المدة لان صاحبة القضية التي اطلقت عليها اسم امل طلبت رأيا حاسما من القراء حول خطواتها المقبلة هل تسير في اتجاه فضح ذلك المجرم الذي اعتدي عليها وهي في سن التاسعة، وتتحمل اعباء ذلك الفضح من انعكاسات اجتماعية ونفسية علي أسرتها وعملها، ام تواصل صمتها الذي لازمها طيلة نحو 40 عاما من عمرها وتتجنب الانتقام .. الذي يمكن ان تتجاوز فيه عن نفسها، ولكن ماكان يؤرقها ان تتجاوز فيه عن حق المجتمع في القصاص من هذا المجرم، الذي يدخل كل البيوت بحكم عمله كمدرس، ويعتدي علي براعم بريئة. لم تختلف حيرة امل عن حيرة القراء وعن حيرتي الشخصية وربما تريثت تلك الاسابيع التي مرت قبل الرد حتي اكون اكثر امانة في نقل وجهات نظر من شاركوها بالرأي في التوصل الي افضل الحلول. وما اخرني اكثر وبصراحة اكبر، انني كنت احمل رأيا مختلفا عن غالبية من خاطبني في هذا الشأن ولذلك اؤخر عرض رأيي امعانا في الموضوعية لانه يعكس اتجاه الاقلية فقط. لقد اتفقت غالبية الاراء علي ان تنسي امل تماما فكرة الانتقام فاذا كان كشف هذا المجرم وفضحه في محيطه ومجتمعه سيخلص امل من ازمتها النفسية فان امل هي بالفعل خطت خطوات علي طريق الشفاء بمساعدة الطبيب النفسي وبمساعدة زوجها وما اقدامها علي البوح بالأمر، وعرضه علي نطاق واسع الا دليل علي ان الازمة اصبحت بلغة علم النفس، علي السطح، ولم تعد في بؤرة اللا وعي. اما اذا كانت تريد ان تنتقم للمجتمع، ولعشرات ربما او مئات من البنات اللائي اعتدي عليهن وليست لهن جرأة الخوض في تلك "التابوهات" الاجتماعية فان المجتمع ليس بالوعي الذي نأمل ومازال يحمل مسئولية الاخطاء الاخلاقية للفتاة أو لأهلها لانهم لم يحسنوا تربيتها وسترها من خلال اخفاء مفاتنها منذ الصغر بالحجاب وعلي سبيل الامانة اورد رأيا ذهب الي اكثر من هذا وهو نموذج لكيف يفكر المجتمع ولايمكن ان نضع رؤوسنا في الرمال كالنعام فنتجاهل الواقع الذي يغرق فيه الناس يقول محمد السيد من حلوان ان الطفلة لايجب ان تخرج للشارع وتلعب مع اقرانها بل مكانها المحصن المنزل ولايجب ايضا ان تدرس في فصل مختلط. واذا كان لها اخوة من الذكور فلا يجب ان تشاركهم في لعب او نوم .. ولم يذكر لي محمد اذا ما كان ذلك كافيا لمنع اعتداء مدرس مريض، او حتي شيخ مريض يعلم القرآن كلام الله أو قريب مريض أيضا لدرجة الخال أو العم يقول للطفلة تعالي في حضن عمو او هاتي "بوسة لعمو" مثلما اورد الكاتب الكبير مفيد فوزي في مقاله تعليقا علي هذه القضية؟! ورغم ان بعض القراء تعرضوا الي قصص اكثر بشاعة في نتائجها من قصة امل .. حيث تحمل البنات من اولئك الاقرباء ويكون ردة فعل الاسرة الاسراع بالتخلص من الجنين لدفن السر ليس اكثر، مما يعني في رأيهم ان مجتمعنا غير قادر حتي الان علي مواجهة مشاكله الخطيرة ذات الحساسيات الدينية والاخلاقية. لذلك فانه ورغم التعاطف غير المحدود مع امل فان القراء يتمنون "ان ينعم الله عليها بنعمة النسيان وتحمده علي انه وفقها في حياتها وسترها بأن تزوجت وانجبت" وينصحونها بمحاولة نسيان فكرة الانتقام، لانها سوف تجلب عليها الحزن والفضيحة لعائلتها، خصوصا اذا كان بين ابنائها "بنات" واخيرا ينصحونها بالمزيد من الصبر!! علامة التعجب من عندي. ذلك ملخص غالبية الاراء. اما من طالبوا بالانتقام فهم قلة ، وانا احمل نفس رأيهم وقد بني علي عدة اسس اولها وهو مايهمني ان المجتمعات لا تتغير وتتحرك الا اذا واجهت العوار الذي ينخر بنيتها وصحتها وسلامتها ومن اخطر القضايا الاخلاقية المسكوت عنها تلك التي لها علاقة بالجنس والمحرمات، وهي قضايا تحتاج الي وقفة والي شجاعة وجرأة ووعي للمواجهة وتلك مهمة اصيلة للمثقفين والنخبة، لكن في زمن مترد انسحب هؤلاء عن دورهم ومسئولياتهم، اصبحت جرأة المواطن العادي بطولة خارقة تستوجب التحية والابراز والاحتفاء والتشجيع. لذلك حالة امل اذا طرحت سوف تفتح هذا الملف بكامله علي الرأي العام وسوف تشجع جرأة امل ووعيها غيرها من "المغتصبات" علي كشف قصصهم وسيساعدنا ذلك علي حصر تلك الظاهرة ودراستها بشكل علمي ثم علي معالجة حقيقية لمواطن الخلل وايجاد حالة من المكاشفة داخل اطراف المجتمع نفسه. وكنت اتمني ان عالما بقيمة الدكتور سيد عويس رحمه الله مازال بيننا حتي يتبني قضية امل ويطرحها بحكمته وعلمه الكبيرين، كما كنت اتمني ان يكون عالما اخر بحجم وعمق الدكتور غالي شكري قدس الله روحه بيننا حتي يمد يده ويفتح عقله ويقود حملة قومية تتصدي لهذه الظاهرة. لكن ماذا نفعل .. والي اين نتجه، ومراكز بحوثنا الاجتماعية وعلماؤنا اصبحوا "يقشرون البطاطس ويفصصون البازلاء"؟!