الناس البسطاء في بلدنا يتحدثون هذه الأيام بحماس عن الرئيس الايراني أحمد نجاد.. وكذا يبدون تعاطفهم إزاء فوز حركة حماس في الانتخابات واستعدادها لتشكيل الحكومة الفلسطينية القادمة. وعندما نتأمل آراء الناس نكتشف ان ما يدفعهم الي هذه المواقف شعورهم ان القوة الوحيدة التي تقف في وجه الولاياتالمتحدة وتحارب مشاريعها المشبوهة حاليا هي ايران وانها تتحدي التلويح بالعقوبات من طرف الدول الغربية واحالة ملفها النووي الي مجلس الامن. كما ان الناس يرون ان القوة "المعنوية" القادرة علي زرع التفاؤل في العرب والمسلمين هي الحركات الأصولية مثل حماس واخواتها، خاصة ان القوي الوطنية الاخري والاحزاب السياسية تزرع علي العكس الخوف والجبن من امريكا وتعيد تصنيع وترويج الهزيمة التي تنخر قوي قياداتها.. ويشعر المصريون بالاهانة والنقمة علي الولاياتالمتحدة كلما صدرت من الاخيرة مواقف متعنتة ضدنا وضد المصالح المصرية، وآخرها ايقاف مفاوضات التجارة الحرة، وليس خافيا منطق العقاب الذي يتعامل به البيت الابيض مع مثل هذا الملف، والناس تردد في احاديثها اسباب "العقاب" بداية من رفض مصر ارسال قوات عسكرية الي العراق، ووصولا الي ايمن نور ومحاولة الامريكيين التدخل في مجري القضية. وقد استمعت الي تصريحات للدكتور يوسف بطرس غالي ادلي بها الي اذاعة لندن لا يبتعد مضمونها عما يدور بين الناس، حيث اوضح ان مصر تريد ان تعقد اتفاقا تجاريا بحتا مع الولاياتالمتحدة.. غير أن الاخيرة تسعي الي اقامة اتفاق تجارة حرة تتدخل فيه أشياء اخري ويتضمن شروطا ليست تجارية بحتة! واذا كانت مصر ارتأت ان تتبع دائما اسلوب "الدفاع".. فهذا اختيارها مع حليف استراتيجي، غير ان هذا الحليف "يلاعبنا" باكثر من اسلوب، ويضغط علي الحكومة بفرض مشاريعه المشبوهة علي المنطقة وفي مقدمتها مصر ونحن في المقابل لا نستطيع ان نلاعبه! وقد فهمت ايران هذه الاهداف واتبعت اسلوب "الهجوم" بدلا من الدفاع، وهذه رؤية حكّام وحكومات في الأخير.. مثلها مثل رؤي المدربين في مباريات الكرة بعضهم يري ان افضل الخطط للدفاع عن المرمي نظيفا ان يبادر فريقه بالهجوم! وقد جربت شعوب وحكومات علي حد السواء ان تستكين وتطيع.. عندما يتعلق الامر بالعلاقة مع "سيدة العالم"، كما جربت اخري ان تناور للدفاع عن مصالحها.. ونحن نشهد حاليا علي ملعب العلاقات الدولية نماذج من هذه الشعوب ومن تلك وعلينا ان نتعلم الدرس من تجارب غيرنا، وايضا من تجاربنا ونتائجها حتي الان.. وغالبها ليست مرضية لمصالحنا.. ولكن المهم ان يكون لدينا ما يستحق ان نناور به! وأتذكر أن المتحمسين لاتفاقية الكويز كانوا يقنعون الرأي العام باهمية هذه الخطوة باعتبارها تمهيدا لمكسب اهم وهو اتفاق التجارة الحرة مع الولاياتالمتحدة، لكن اتضح جليا الآن ان حسن النوايا لا تصنع سياسة متوازنة وانه لابد من ان تأخذ بنفس القدر الذي تعطي به، بل وفي نفس اللحظة حتي تضمن عدم التنصل من اتفاقيات المبادئ.. لكن العطاء المجاني، او الذي نجني منه بعض الفتات لا يكفي لاقناع الناس اصحاب المصلحة العامة والعريضة بمبررات اي تنازل. قد اتفهم ان بعض الاهداف تحققت من وراء الكويز خاصة لصناعات النسيج في ضمان دخولها الي الاسواق الامريكية، لكنه ثمن هزيل وتستحق مصر ان تدافع عن مصالحها بأقوي من هذا "العرض".. وكلنا نتذكر كيف "رقصت" اسرائيل حين فازت بتوقيع اتفاقية الكويز مع مصر.. وانتظرنا المكسب الاكبر ولكنه لم يأت لان أمريكا تريد تنازلات اكثر واكثر قد نكون غير قادرين عليها هذه المرة. إن الولاياتالمتحدة تجردنا من ملابسنا قطعة، قطعة.. ولن تتردد حتي في جردنا من ملابسنا الداخلية.. هذا التعبير الذي اصبح رجل الشارع يردده ليس من قبيل الشعارات ولكنه يعكس وعيا موجودا لدي الناس، ولا تعيره الحكومة اهتماما، مع انه من المهم في علاقاتنا مع شركائنا ان نفاوض علي مصالحنا بطريقة تضمن اهدافنا القومية قبل ان تضمن اهداف هؤلاء الشركاء. ولدينا في فنزويلا، ذلك البلد الصغير نسبيا مقارنة بمصر، مثلا لابد ان نتأمله، فرغم محاولات امريكا اضعافه معاقبة له علي اختيار حاكم مثل شافيز الا انها فشلت، وقد ادرك شافيز ذلك مبكرا واقام تكتلا قويا مع شركاء من امريكا اللاتينية واصبحوا يضربون بقوة للدفاع عن مصالحهم، ويقفون امام الامريكيين في منظمة التجارة العالمية، ويناورون تارة اخري بالنفط الفنزويلي.. غير أننا لا نعرف المناورة، ولا نتقن التكتل رغم ان النفط العربي والجوار مع اسرائيل.. وملكيتنا لمفاتيح المنطقة قادرة علي خلق مواقف تفاوضية اقوي لصالح مصر، بل والعرب جميعهم. وقد اتيحت لي فرصة لقاء الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز علي هامش مشاركته في اول قمة عربية لاتينية بالبرازيل وقد استقبلني الرجل بالاحضان.. حتي انه اخجلني.. تقديرا واحتراما منه للعرب ولشخصية كبيرة هو الزعيم جمال عبدالناصر الذي مازلنا والحمد لله نعيش علي بعض تراثه المعنوي.. وقال لي شافيز بالنص في الحوار ان العرب يملكون من وسائل القوة كأمة وموارد وبشرا وتاريخا وموقعا استراتيجيا ما يجعلهم في موقف افضل مما انتم فيه. وانبري يشرح كيف حاولت امريكا اسقاطه ومازالت تحاول.. وكيف تسعي الي التدخل واللعب في منطقة امريكا اللاتينية للسيطرة علي موارد هذه البلدان.. ولكن التحالف يضع القوة.. ولن تستطيع امريكا ان "تجوع" الشعوب وتحكم العالم مادامت الحكومة أي حكومة تستمد شرعيتها من شعبها. وتحدث عن الملف العراقي وكيف احتلت قوات التحالف هذا البلد العربي.. تحت انظار الجوار العربي والاسلامي، الذي سهل هذه المهمة.. وحذر قائلا: الخطوة القادمة ارسال قوات عربية الي العراق لانقاذ الولاياتالمتحدة من ورطتها، فالجنود هناك يلقون حتفهم بالعشرات يوميا.. فكيف ستستطيع الحكومات العربية أن تقول لا؟ هذا السؤال الذي طرحه شافيز منذ اكثر من ستة اشهر اصبح مطروحا بقوة والحاح اكبر من أي وقت مضي.. فهل تستطيع مصر فعلا ان تستمر في رفض ارسال قوات، وما التكلفة القادمة لهذا القرار، بعد ان عاقبتنا امريكا بايقاف مفاوضات التجارة الحرة وبعد ان قبلنا سابقا السيناريو الامريكي والجزء الاول من المشروع الاستعماري بالمنطقة؟!