دخلت غرفة العمليات لإجراء جراحة في العين، وكان الأهلي متقدما علي المصري بهدف أحرزه لاعبه البرازيلي «جونيور» الذي انفكت عقدته، وخرجت بعد ساعتين علي أصوات تحاول إفاقتي من التخدير «اصحي يا أستاذ أحمد الأهلي اتغلب وفيه جماهير ولاعبين ماتوا» ولم أفهم ما حدث لعدة ساعات، حتي عدت إلي البيت مساء متأخرا لأتابع بألم الكارثة التي حدثت. ولكن ما حدث في بورسعيد مؤخرا يكشف عن كثير من الأسباب والأزمات التي تعيشها كرة القدم بل وحياتنا اليومية فوقها، ووسط «المولد» الحالي ولجان التحقيق والتعليقات فإنني «كمشجع» كروي أستطيع أن أقول التالي.. الأمن: هو المسئول الأول لأنه خرج ولم يعد منذ يناير الماضي، والعقلية الاحترافية التأسيسية غير موجودة في ظل اهتمام رجال الشرطة «بالوجاهة» والتصرف «بطاووسية» والتمتع «بالسلطة» فقد تعودوا علي أن يعاملوا جماهير الكرة وطوائف الشعب «من فوق» ولم يكونوا أبدا في «خدمة الشعب» فهذا الشعار لا يتحقق إلا نادرا، وقد وجدت الشرطة أن الفرصة أصبحت مواتية لها «للانتقام» من «ألتراس» الأهلي الذين كانوا لسنوات طويلة من تجاوزات الشرطة ضدهم وجاءتهم الفرصة للرد في ثورة يناير وإلي الآن، وبالتالي كان لسان حال الشرطة «خللي الثورة تحميكم» ولا أستبعد رغم أنني لا أحبذ نظرية المؤامرة أن يكون هناك ترتيب إجرامي بين جهات أمنية والبلطجية وبعض مشجعي المصري الموتورين لتأديب جماهير الأهلي، ولكن التأديب تحول لمذبحة خرجت في الإطار المرسوم «ضرب فقط دون قتل». الطرف الثالث وقد يكون أصبح عندنا فرق الموت التي استخدمتها الأنظمة العسكرية الديكتاتورية في أمريكا اللاتينية، لقتل وخطف المعارضين، وهذه الفرق المدربة جيدا تحركت وتتحرك يوميا في «ماسبيرو» و«التحرير» وبورسعيد وكل مكان، والهدف قد يكون إجبار الشعب علي أن «يبوس أيادي» المجلس العسكري للبقاء في ظل انهيار الشرطة وجبروت الإجرام والبلطجة. وقد استخدم جمال عبدالناصر نفسه شيئا من هذا القبيل ولكن دون عنف أثناء أزمة مارس 1954 عن طريق نقابيين ضد أشهرهم أحمد الصاوي الذين رتبوا مظاهرات ضد «الديمقراطية» وطالبت بعودة مجلس قيادة الثورة بعد أن أوقفت حالة البلاد في إضراب شامل منظم تكلف خمسة آلاف جنيه أيامها. تجربة بورسعيد كمنطقة حرة، وكان من المفترض أن تصبح بعد عدة سنوات منطقة صناعية وميناء محوريا للتصدير واعادة التصدير ولكنها تحولت إلي مدينة للاستيراد والتهريب، وبعد 1975 فأن بورسعيد التي عرفتها مصر طوال تاريخها منذ بداية حفر قناة السويس حتي معارك 1956 و1967 تحولت إلي منطقة جذب لعشرات الآلاف من ابناء محافظات الصعيد علي وجه الخصوص وانتشرت تجارة الملابس وقطع غيار السيارات، وبالتالي التهريب بكل اشكاله، وتمت ظاهرة المكسب السريع وتغيرت أيضا هوية المواطن البورسعيدي وأصبحت المدينة علي شفا أن تصبح مدينة مليونية مليئة بالعشوائيات (زرزارة) والتهريب عبر بحيرة المنزلة، وامتلأت بآلاف البلطجية والمتعصبين والعاطلين عن العمل. وحتي قناة السويس التي كانت مصدرا للدخل للمدينة حتي 1967 فقد تعرض الميناء إلي حالة مقاطعة لمعظم السفن وتراجعت اعداد الزيارات السياحية التي كانت تتم للمدينة ولمصر حيث كان آلاف السياح يقومون بمغادرة السفن في بورسعيد لزيارة القاهرة واللحاق بالسفن في السويس، بسبب سوء الخدمات والملاحقات للسياح وأصبح اسم القناة (قناة مارلبورو). اتحاد الكرة الذي اهتم بتعظيم موارده المالية ولم يكن حاسما في إدارة شئون اللعبة، وشاركت قيادات الاتحاد في البيزنس والسياسة وباعوا كرة القدم والمنتخب الوطني للنظام السابق والحزب الوطني لاستثماره سياسيا دون الاهتمام بالجماهير التي تركت فريسة لتجار التعصب. بيزنس الإعلام والصحافة، وهذا البيزنس يقوم علي ملايين الجنيهات سنويا تتقاتل عليها الصحف والفضائيات الرياضية بالذات والتي احتشد فيها لاعبون سابقون ومعلقون يتصفون بالجهل المطبق، ولم يهم هؤلاء سوي إذكاء التعصب والمنافسة غير الشريفة، وطبعا أن البيزنس شمل كرة القدم فقط بصفتها اللعبة الشعبية، وفيها الملايين تنفق من الشركات المعلنة بحثا عن الانتشار، وعلي حسب نشر التعصب. درس الجزائر ولعل ما حدث قبيل مباراة منتخب الجزائر مع منتخبنا في القاهرة في نوفمبر 2009 درسا تجاهلناه، فقد كذبت الحكومة والصحافة وجهات التحقيقات علنا وبفجاجة وادعت أن لاعبي منتخب الجزائر أصابوا أنفسهم وحطموا الأتوبيس الذي يقلهم في المطار، ولم نعترف بأن متعصبين وبلطجية تم شحنهم قاموا بتلك الجريمة، ولم نعتذر للأشقاء ولم نقبض علي الجناة، وثبت فشل الأمن الذريع في حماية بعثة الجزائر من المطار إلي الفندق، وحتي عندما لعبنا في الخرطوم مباراة فاصلة أقنعنا الدنيا كذبا بأن بلطجية الجزائر خرجوا من السجون لضرب جماهيرنا ولاعبينا في الخرطوم. وقد سافرت إلي الجزائر قبيل مباراة القاهرة في محاولة جزائرية لتلطيف الأجواء وتقليل الشحن، ولكن ما رأيته في الجزائر تصعيدا وشحنا من الصحافة والقناة التليفزيونية الوحيدة، وتأكد لي أن كل أنظمة العالم الثالث توظف كرة القدم بحثا عن شعبية لها، وارتفعت شعبية النظام الجزائري وبوتفليقة بعد الفوز علي مصر والصعود إلي كأس العالم، وانخفضت شعبية نظام مبارك وعلاء وجمال نتيحة إخفاقنا، وطبعا ألقينا اللوم والاتهامات علي نظام الجزائر وجماهيره «البلطجية» وساءت العلاقات إلي أدني درجة وتعرضت الاستثمارات للخطر والمصري هناك لاعتداءات. روابط المشجعين.. كانت الروابط زمان بسيطة وكان رئيس رابطة مشجعي الأهلي «عم عبدالله» الذي كان يبيع مكرونة أمام بوابة الأهلي في الجزيرة، ولكن بعد أن أصبح البيزنس بالملايين، تم تكوين روابط ضمت المتعصبين والمشجعين العاديين من كل الفئات، ولكنها امتصت عنف الشباب المحروم من العمل والسكن والزواج، وأشهر الروابط ألتراس الأهلي التي أدخلت تشجيعا أوروبيا وتنظيما رائعا، ولكنها لم تسلم من بعض المتعصبين ساهموا في الكثير من المعارك وسط غياب إدارات الأندية. وعلي كل حال فقد شارك ألتراس الأهلي في ثورة يناير بفاعلية كبيرة وخاضوا المعركة ضد بلطجية موقعة الجمل، وتم الانتقام منهم في نفس اليوم بعد سنة كاملة. كل هؤلاء شركاء الفشل الأمين وعدم الاحترافية ومظهرية معظم ضباط الشرطة والرغبة في الانتقام من الألتراس، والصحافة والقنوات الرياضية والصحفيين والمعلقين المتعصبين الجهلة، واتحاد الكرة الذي لم يهمه إلا بالبيزنس والأموال التي تتدفق عليه والشهرة والاقتراب من قمة الحكم الذي وظف الكرة للحصول علي شعبية ولشغل الشباب أساسا والجماهير عموما عن السياسة ولقمة العيش، كل هؤلاء ساهموا في الكارثة الكبيرة التي وصلنا إليها. والسكوت عن الحوادث المؤسفة السابقة وعدم إعمال القانون وعقاب المخطئ في ملاعب الكرة ومشاجرات ومعارك المشجعين أوصلتنا إلي ما وصلنا إليه، قاطعت ملاعب الكرة منذ سنوات طويلة، واكتفيت بالمشاهدة الأمنية عبر التليفزيون.