غادر عالمنا البرلماني البريطاني توني بن ،ترك خلفه مسيرة طويلة من النضال السياسي لتحقيق العدل الاجتماعي والدفاع عن الضعفاء ، سواء داخل بريطانيا أو في انحاء العالم . ظل يمثل لمدة نصف قرن داخل البرلمان بريق الأمل في مقاومة الطمع الرأسمالي وتهذيبه باشتراكية ديمقراطية تناصر حقوق العمال ومطالبهم وكفاحهم النقابي للحصول على حقوقهم وانتزاعها من أنياب رأسمالية مصرة على التحرك دون الالتزام بأهداف اجتماعية عاجلة . رفض توني بن، الجلوس مع اللوردات والنبلاء في مجلس النخبة البريطاني وتخلى عن لقب امبراطوري ورثه عن والده ، حتى يظل في ساحة مجلس العموم حيث النضال السياسي والكفاح وتأكيد المبادئ الانسانية التي تشبع بها . ظل النائب بن تحت مظلة حزب العمال بتاريخه ومواقفه في مقاومة الحزب المحافظ الممثل للارستقراطية والطبقة الرأسمالية ورجال الاعمال . وعلى الرغم أن الحزب العمالي يضم في صفوفه شرائح رأسمالية غير انه يقف على يسار المحافظين بتأييد نقابات العمال والدفاع عن حقوق الشرائح الاقل دخلاً وقوة في المجتمع. العناد السياسى كان النائب الراحل هو صوت هؤلاء في البرلمان ولم يتزحزح عن موقفه خلال نصف قرن وعندما دخل الوزارة وتولى منصب وزير الكهرباء في حكومة هارولد ويلسون التزم الموقف نفسه ، وترك مجلس العموم وانخرط في قيادة التظاهرات وموجات الاحتجاج والاعتراض على مواقف الحكومات البريطانية سواء فيما يرتبط بالقضايا الاجتماعية أو معارضة الحروب والتنديد بها . موقفه من العرب وقضاياهم في منتهى الوضوح والثبات بتأييده للشعب الفلسطيني في حقه للحصول على دولة تعبر عن أمانيه الوطنية . وبعد خروجه من مجلس العموم في عام 2001 استمر على الطريق ذاته بالقوة نفسها والاصرار والعناد السياسي . عارض توني بن، بشدة الحرب على العراق وانتقد رئيس الوزراء العمالي آنذاك توني بلير ، الذي تحالف مع اليمين الامريكي المتشدد وتبنى اطروحاته ومواقفه . وهاجم البرلماني المخضرم تحولات حزب العمال التي قادها توني بلير وشجب تورطه في المستنقع العراقي ، وكان معارضاً بشدة لسياسات الرئيس الامريكي السابق جورج بوش الابن . اعتمدت الحركات السياسية الراديكالية البريطانية على مواقف توني بن سواء في البرلمان أو خارجه ، اذ كان على قوة يملكها في التعبير عن الكتلة الغائبة عن الساحة الرسمية وكان هو صوتها ، ودائماً قبل اعتكافه بسبب المرض ضمن تظاهرات لنقابات العمال ومحتجين على آداء المؤسسة البريطانية الرسمية التي بطبيعتها تقف في خندق اليمين ومعارضة اليسار والاشتراكية . شهدت بريطانيا خلال حقبة مارجريت تاتشر معارضة توني بن لسياساتها وحفز حزب العمال للوقوف ضدها وكان يقود التيارات الراديكالية المعارضة للتاتشرية وحاول الحصول على منصب نائب زعيم حزب العمال غير أن التكتل اليميني ساعد منافسه دينيس هيلي للوصول إلى هذا المنصب. رياح معتدلة وقد تعرض حزب العمال لموجات سعت إلى تطويق الموجة اليسارية والاشتراكية داخله ، وعندما انهزم الحزب أمام مارجريت تاتشر في انتخابات عامة أكثر من مرة استطاعت الرياح المعتدلة ازاحة اليساروتعديل بعض بنود ميثاق الحزب لإزالة بعض الفقرات الاشتراكية التي تحض على اعادة تأميم الشركات الكبرى .. وقد انطلق حزب العمال تحت قيادة توني بلير في تخصيص شركات القطاع العام ، وهو الامر الذي كانت تفعله تاتشر عندما كانت في السلطة وتركت هذا الارث ليقوده الحزب العمالي نفسه مما أدى إلى خلاف بين توني بن وتوني بلير واستمر هذا الانشقاق لفترة طويلة وهذا ما اشارت إليه الوزيرة السابقة كلير شورت التي نعتت توني بن ووصفته بالزعيم والمفكر الاشتراكي.. ظل النائب العمالي البريطاني على مدى نصف قرن في البرلمان يمثل التيار الاشتراكي اليساري الداعي للعدالة الاجتماعية والمدافع عن حقوق الضعفاء وأصحاب الدخول المنخفضة . ووقف في البرلمان أيضاً ضد الحروب واحتلال دولة قوية لأخرى صغيرة وضعيفة . كان يرفض احتلال اسرائيل للأراضي الفلسطينية وعارض التوسع في بناء المستوطنات وطلب إزالتها ومنح الشعب الفلسطيني حقه في اقامة دولته على ترابه الوطني.. كان توني بن، أيضاً قريباً من الشعب المصري وحضارته وحرص دائماً على حضور مناسبات مصرية في لندن . وقد تجده دائماً في تظارهرات لعمال وطلاب ومحتجين يطالبون بحقوق مرتبطة بالتعبير ورفض الاستبداد بكل انواعه وأشكاله . كتب توني بن عدة كتب تتناول قضايا الاشتراكية الديمقراطية والعدل الاجتماعي . كان يتمتع برؤية انسانية تتعاطف مع البشر في كل مكان ومنح صوته داخل البرلمان للدفاع عن القضايا التي كافح من أجلها ولم يتخل عنها أبدا خلال مسيرته البرلمانية وعلى مسرح الحياة البريطانية.. امتلك النائب الراحل وجهة نظر قوية تستند على ارث المدرسة الاشتراكية الانجليزية التي استوعبت نظريات الاجتهاد الفكري وتم تطويعها للتناغم مع مجتمع رأسمالي يمكن تحقيق بعض المكاسب عبر الكفاح الديمقراطي في البرلمان . وظل مؤمناً بأن مجلس العموم هو ميدان النضال السياسي ، إذ يمكن من خلال صوغ القوانين وفرضها وتمريرها تحقيق فكرة العدالة والمساواة ورفض الحروب.. هذا الجيل الذي تحرك بعد الحرب العالمية الثانية استطاع من خلال البرلمان تطبيق بعض مبادئ الاشتراكية وتأميم المصانع ومنح العمال الحقوق والضمانات وتحسين شروط العمل.. اعتقد بن دائماً انه يمكن تقوية الاجنحة المؤمنة بالعدل والاشتراكية لتعمل من داخل البرلمان وحصار فكر المحافظين الاناني والشرس والرافض لمبدأ العدالة والمتحدث بأسلوب قديم مستهلك اسمه قواعد السوق الحر دون الالتزام بقضايا المجتمع واهدافه . حصار الرأسمالية وقد انتصر هذا الجيل بالبرلمان ، لكنه أيضاً تعرض لهزائم قاسية على يد تاتشر التي استخدمت مجلس العموم أيضاً لتمرير القوانين لحصار حق الاضراب وتشجيع الاستثمار ونمو القطاع الخاص وتخفيض المعونات الاجتماعية للعاطلين عن العمل . كان بن يعتقد أن الاشتراكية تستطيع حصار الرأسمالية الشرسة من خلال تشريعات البرلمان ، وهذا الموقف تعرض لهزات نتيجة متغيرات سادت المجتمع البريطاني مما أضعف نفوذ الكتلة اليسارية في البرلمان لحساب الاخرى اليمينية . انتصر دائماً توني بن للاشتراكية الديمقراطية التي تستند على العدل وعدم التمييز لأن في ذلك صالح المجتمع بينما التطرف اليميني وفلسفته الاقتصادية يدفع إلى التناحر وسيادة الفقر مع التخلف وانتشار قيم الانانية والتنافس الضار بنمو المجتمع . توني بن، هو ثمرة لكفاح سياسي طويل وقد قاد نضاله من خلال البرلمان . وعلى الرغم انه ينتمي إلى طبقة ثرية في البلاد ، غير انه تخلى عن كل ذلك وفضل البقاء في ساحة العمل السياسي وتنازل عن لقب لورد من أجل مبادئ يؤمن بها يراها تمثل الخلاص لبريطانيا والعالم ، لأن العدل يقود إلى الاستقرار وضمان حقوق الانسان تحمي الدولة ونبذ التمييز بكل أشكاله ضمانة للتقدم ومحاربة الاستعمار والخلاص منه ضرورة حتى يتنفس الجنس البشري بحرية وبلا قيود . غاب توني بن لكن ارثه في كتبه عن الاشتراكية والعدالة والسلم وضرورة انحياز الانسان إلى قيم نبيلة ظل يدافع عنها خلال عمره ومحطات حياته .