عندما فكر شاعر العامية المصري يسري حسان في كتابة سيرته وجد أن التعبير عن الذات الفردية لن يحقق بطولة لمن عاش يعبر عن الناس، لذلك وجد أن كتابة سيرة المكان سردية مناسبة يروي فيها تكوينه المتصل بالروح الجمعية، وهذا استلهام للسير الشعبية التي حكت عن أبطال التاريخ المرتبطين بأحداث مهمة في مسيرة مجتمعاتهم، فجاء كتاب خلطة شبرا على نسق السير الشعبية مثل الأميرة ذات الهمة أو الظاهر بيبرس أو علي الزيبق، لكن الشاعر الشعبي يعي جيدًا أن البطولة الفردية لا وجود لها وحدها، إنما من تفاعل عناصر الهوية معًا داخل بيئة ثرية تستطيع في حد ذاتها أن تكون شخصية لها سمات البطولة التي تفرض بها نفسها في شخصية كل من ينتمي إليها ونشأ في أجوائها، وهذا إدراك ثقافي من شاعر ينتمي إلى الشعب ويعبر عنه، ويجد نفسه في المجموع متفاعلًا مع كبيرهم وصغيرهم بصرف النظر عن الطبقة الاجتماعية أو المهنة أو الأدوار التي تؤديها الشخصيات في السياق الجمعي، فالبيئة لها البطولة وهي التي تطبع أفرادها بسماتها مستخرجة من كل شخصية ما يناسب طبيعة الوجود في هذه البيئة، فعبقرية البيئة الشعبية تتمثل في قدرتها على فهم الشخصيات المنتمية إليها وتطعيمها بالهوية التي اكتسبها المكان في رحلته التاريخية الطويلة، وكل شخصية لديها مقومات خاصة تستطيع البيئة أن تلتقطها وتعدها وتنميها، لذلك يظهر في البيئة الواحدة نماذج بشرية متنوعة، ومع ذلك تتسم كل هذه النماذج بسمة واحدة مرتبطة بالبيئة، بمعنى أن المكان شخصية لها عقل خاص بها، وهذا العقل يقرأ الناس ويصنفهم ويمنحهم وجودًا يناسبهم في عالمه. من العنوان الذي اختاره يسري حسان للكتاب نجد أن الخلطة تتكون من عناصر متنوعة وفي الوقت نفسه لها مذاق خاص بها يجمع هذه العناصر معًا، وقد لا يستطيع متذوق الخلطة أن يستخلص كل عنصر منها على حدة بسهولة، فهذا الموضوع يتطلب خبرة جمالية وتحليلية لرد كل طعم في الخلطة إلى أصله، وفكرة الخلطة نفسها مرتبطة بالبيئة الشعبية المصرية وبأشهر أكلاتنا التي يتفنن فيها مطبخ الحارة، هذا المفهوم الاستعاري الذي اتخذه يسري من الطعام يوضح أن الهوية ليست مغلقة بل متعددة المكونات، لكنها في الوقت نفسه ليست سائلة إنما دخول هذه المكونات فيها يتطلب دقة وتناغم وتفاعل وانصهار ووحدة، وهذا ما يميز الشخصية الشبراوية، وما يجعل استعارة مفهوم الخلطة من مجال الطعام إلى مجال الهوية عملية جمالية وفكرية ذكية، وتنتمي إلى الفكر الشعبي نفسه، فالمضمون ينصهر في الشكل، واللغة تحمل الجوهر الروحي المنعكس في سلوك البشر. وإذا كان يسري حسان جعل البطولة لسيرة المكان، فإن القارئ سيرى المؤلف طوال الوقت، ليس في اختياراته للشخصيات والعلاقات بينها وتطورها مع الزمن أو اندثارها فقط، إنما في تكوين شخصية المؤلف نفسه على المستوى الفردي والعائلي والجمعي، فالكتاب يحتوي على معلومات قيمة بصدد سيرة المؤلف لكنها لا تأتي بشكل مباشر وتسجيلي، فكأنه يحاكي أبناء البلد عندما يتحدث عن نفسه من خلال حديثه عن العالم، فلا يكون مقتحمًا على المتلقي بحضوره الفردي الجاف، إنما يكون هذا الحضور حضورًاجماليا يحمل معه مرجعية لعالم كبير، يشترك فيه المؤلف مع أهل الحي الذي ينتمي إليه، بل إن المؤلف يطرح على القارئ ببساطة موقفه من العالم في رحلة التكوين ويستطيع المتلقي أن يفهم أيدولوجيا الكاتب ووعيه وخبرته الطويلة في تعامله مع أنماط البشر من خلال ما يذكره في الكتاب بصدد أشياء كثيرة، بعض هذه الأشياء يبدو صورة شعبية خيالية يضعها المؤلف لهؤلاء الناس البسطاء الذين نتصور أنهم على مبعدة من صناعة المناخ الفكري والفني للمدينة، ذاك المناخ الذي تصنعه النخبة، لكن هذه الصورة كما يطرحها المؤلف تجد فيها نوعًا من الجدل، أو نوعًا من الإشارة إلى غير المألوف، فالشاعر الشعبي الذي يزعم أن معظم أغاني أم كلثوم من تأليفه يطرح فكرة مهمة لها بعد جدلي وهي أن شعراء أم كلثوم أو نخبة صناعة الأغنية يستلهمون الروح الشعبية، لكن هناك زاوية أخرى للموضوع وهي أن ما نراه أحيانا على السطح هو من صنع شخصيات شعبية لا نعرفها، ويتكرر هذا مع القريبة التي تقول أنها تؤلف أغنيات لفايزة أحمد وشادية، هذا الأمر يشير إلى تماهي الفردي والجمعي من ناحية، لكنه في الوقت نفسه يجعلنا ننظر إلى إنتاج النخبة بشكل حذر، فمن الممكن أن تكون هناك مرجعية شعبية لهذه النخبة. لقد حرص المؤلف على إقامة علاقة جدلية المكان والزمان منذ الجملة التفسيرية للعنوان "عن الحياة إللي عشتها قبل الدنيا ما تتغير"، ومن الواضح أن هذه الجملة لا تتحدث عن تحولات الزمان التي فرضت على المكان متغيرات متنوعة، لكنها تشير أيضًا إلى علاقة الكاتب بالبيئة التي اتخذها سيرة، فالحياة المميزة له مرتبطة بزمن ما قبل التحولات، أي أن وجوده وملامحه وتاريخه ينتمي إلى فترة مغايرة للفترة الآنية بمعنى أن الكتابة جاءت لمقاومة الاغتراب الذي يشعر به الكاتب في الأجواء الحالية. في الكتاب معجم للألفاظ الشعبية ذات الطابع المصري الخالص التي تفيد علماء الاجتماع وعلم النفس الجمعي والدراسات الثقافية وفي الكتاب أيضا معجم للأماكن والأعلام ونماذج درامية يمكن الإفادة منها في بناء روايات ومسرحيات، وهذا يشير إلى ظاهرة أخرى مهمة وهي مهارة الكاتب في إقامة التناص بين شبرا والعالم، أو بين هذه السيرة الشعبية وأعمال أخرى ذات طابع عالمي، فتجد إشارة إلى سيرة بابلو نيرودا، أو مسرحية ست شخصيات تبحث عن مؤلف لبيراندللو، بالإضافة إلى كثير من الأغاني الشعبية التي تعبر عن التحولات الحضارية مثل أغنية: "باعو النحاس وجابو الألمونيا"، فالأغنية الشعبية تدل على الرؤية العميقة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية وأثرها في حياة الناس.