عاش المفكر الراحل د. سيد القمني – مراحل صعبة في حياته الفكرية, نظرا لمواقفه الجريئة والصادمة في احيان كثيرة, والكاشفة لأبعاد مسكوت عنها في الثقافة العربية, من خلال مؤلفاته المختلفة, ومنها "اهل الدين والديموقراطية", و"السؤال الاخر" و"رب الثورة اوزويريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة", و"شكرا بن لادن" و"الجماعات الاسلامية رؤية من الداخل" و"الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الاسلامية" و"الاسرائيليات" و"الاسطورة والتراث" و"مدخل إلي فهم دور المثيولوجيا التوراتية", و"العرب قبل الاسلام" و"الدولة الاسلامية والخراب العاجل" و"النبي موسي واخر ايام تل العمارنة" و"حروب دولة الرسول", و"الفاشيون والوطن" وغيرها, من الكتاب التي اتسمت بطابع جدلي بحفر في العمق من بنية الثقافة القديمة والمعاصرة. خطاب كاشف كان خطاب "القمني" شديد اللهجة ضد دعاة الاسلام السياسي, مقدما تحليلات علمانية للتاريخ الاسلامي والتاريخ القديم بشكل عام, وهذا ما يبدو واضحا فى كتابه "رب الزمان" الصادر عام 1997, والذي قام بمصادرته مجمع البحوث الاسلامية بالازهر. اما كتابه "الحزب الهامشي وتأسيس الدولة الاسلامية" فيحمل وجهة نظر وتحليل القمني لجذور فكرة تأسيس الدولة الاسلامية, حيث حلل "القمني" التاريخ الاسلامي علي اعتباره ظاهرة بشرية وليست كمسيرة دينية, مشيرا الي البعد السياسي في هذا التاريخ, واشار القمني الي ان العامل الاقتصادي والفكر القومي العروبي لعب دورا كبيرا في نشوء الاسلام, وان "عبد المطلب بن هاشم" جد الرسول "صلي الله عليه وسلم" تمتع بوعي سياسي وقومي رفيع, وحاول زرع البذور الاولي نحو الوحدة القومية فدعي الي القاء التماثيل والاصنام وغيرها من الوساطات والشفاعات, وبدأ بغرس فكرة "الحنيفية" مستلهما اسسه من ديانة ابراهيم عليه السلام الذي يعده العرب ابا لهم. وان الرسول محمد "صلي الله عليه وسلم" اكمل ما بدأه جده وقام الاسلام بالتخلص من ارستقراطية قريش واستقر امر الدولة العربية الاسلامية الوليدة للبيت الهاشمي وتراجع نفوذ الامويين من ابناء عمومتهم ليتأجج بعد ذلك الصراع التاريخي بينها علي اسس اقتصادية اجتماعية جديدة بعد اتساع الدولة بالفتوحات وانتشار الرسالة الجديدة, وعندما سنحت الفرصة للحزب الاموي انقضي علي الهاشميين بضراوة واستولوا علي الحكم, وساعتها تجلت مشاعرهم تجاه بني عمومتهم في المجازر الدموية التي راح ضحيتها كل من ايد البيت الهاشمي.. تكامل الأزمنة كان "القمني" يؤمن بفكرة تكامل الازمنة والادوار , حيث كان يري انه "لا شيء اطلاقا يبدأ من فضاء دون قواعد مؤسسات ماضوية يقوم عليها ويتجادل معها, بل ويفرز منها حتي لو كان دينا" والاعتقاد بأن كل فكرة سبقت الاسلام ليست متكاملة بل فيها الكثير من العيوب يجعل المرء – حسب تعبير القمني- متقوقعا في اطار يعتقد انه الافضل والاكمل, ومثل هذا الفكر- من وجهة نظره- غير مستعد لفقد الذات أو التغيير أو الحوار". وكان "القمني" يري أن هناك ضرورة لثورة ثقافية تستلهم التراث العقلاني في الثقافة العربية الاسلامية". وربما تحليل القمني للتاريخ الاسلامي من منظور اقتصادي وسياسي وتاريخي, هو ما اوقعه فريسة للمصادرة, وجر عليه- كثيرا- من العداء من قبل الجماعات الاسلامية ودعاتها. لدرجة انه عندما فاز بجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 2009, قام الشيخ يوسف البدري- الذي اشتهر بمصادرة عدد كبيرمن المثقفين- برفع دعوي قضائية ضد كل من فاروق حسني- وزير الثقافة وقتها-, وعلي ابو شادي- أمين عام المجلس الاعلي للثقافة- وقتها- وشيخ الازهر, بسبب فوز "القمني" ود. حسن حنفي بجائزة الدولة لهذا العام. حيث اعتبر "البدري" ذلك اهدارا للمال العام, لان الكاتبين- من وجهة نظره- يسيئان الي الذات الالهية والي الاسلام. وقبل هذه القضية حدث في عام 2005 ان اعلن "القمني" "توبته عن الكتابة وعدم العودة اليها" بعد ان تلقي في يوم الاربعاء 4 مايو 2005, بيانا تكفيريا من احد المواقع الالكترونية ويحمل عنوان "القاتل", ومن شخص يسمي نفسه "ابو جهاد القعقاع" , وتضمن البيان لهجة تحذيرية حيث جاء فيه: "الحمد لله وحده والصلاة والسلام علي من لا نبي بعده, اعلم ايها الشقي الكفور المدعو سيد محمود القمني ان خمسة من اخوة التوحيد واسود الجهاد قد انتدبوا لقتلك ونذروا لله تعالي ان يتقربوا اليه بالاطاحة برأسك, وعزموا ان يتطهروا من ذنوبهم بسفك دمك, وذلك امتثالا لامر جناب النبي الاعظم صلوات ربي و تسليماته عليه اذ يقول: "من بدل دينه فاقتلوه"..ايها الدعي الاحمق.. نحن لا نمرج.. صدق ذلك او لا تصدقه ولكننا لن نكرر تهديدنا مرة اخري, لن ينفعك ابلاغ المباحث بأمر هذا التهديد, لن يفلحوا في حمايتك الا بصورة وقتية وبعدها سيتركونك فريسة لليوث الاسلام". وما كان من د. سيد القمني الا ان ارسل بعد 48 ساعة من تلقيه لهذا التحذير, بيانا اخر نشرته مجلة "روزاليوسف" يعلن فيه استجابته للتحذير وبرائته مما كتب, وتوقفه عن الكتابة, وجاء في هذا البيان:"تصورت خطأ في حساباتي للزمن انه بامكاني كمصري مسلم ان اكتب ما يصل اليه بحثي, وان انشره علي الناس, ثم تصورت خطأ مرة اخري أن هذا البحث والجهد الصواب, واني احترم به ديني ووطني, فقمت اطرح ما اصل اليه علي الناس متصورا اني علي صواب وعلي حق فإذا بي علي خطأ وعلي باطل, كنت اقصد الخير ولا افرض رأيا, ولا اتعسف موقفا, اخذ به من اخذ, ورفضه من رفض, وهاجمه من شاء دون مشاكل, كنت اتصور وانا مهموم بأمتي في زمن وظرف استثنائي علي كل المستويات, اني اساعد الناس بهز غفوتهم, واحيانا كنت امعن في النقد قصدا حتي يفيقوا, كنت اظن اني نافع انبه للاخطار, والتي كثيرا ما تحققت معها نبؤاتي بحكم قراءة الاحداث بحياد وليس من كثير ذكاء, كنت اتمني ان اكون عاملا مساعدا للحاق باخر قوافل الحضارة, وما ظننت اني سأتهم يوما في ديني, لاني اطرح بديلا لهذا الدين, ولا ارضي بالاسلام بديلا, ولكن لله في خلقه شئون, ولم يتبق لي الا ان اودع قرائي وهم اهلي وعشيرتي وناسي واحبائي من القلب.. اعترف سيكون الموت بكسر الاقلام موتا بطيئا, فقلمي هو مناط حياتي ونفسي الذي اتنفسه, لكن اقدامي علي هذه الخطوة سيبقي لي من العمر ما يكفي لرعاية من يستحق رعايتي فلذات كبدي, هذا في حال قبول هذا البيان. ومن ثم اكرر خلف البيان التحذيري "انني اعلن براءة صريحة من كل ما سبق وكتبته ولم اكن اظنه كفرا فاذا به يفهم كذلك, لهذا اعلن توبتي من كل الكفريات التي كتبتها في مجلة "روزاليوسف" براءة تامة صادقة يؤكدها عزمي علي اعتزال الكتابة نهائيا من تاريخ نشر هذا البيان بمجلة "روزاليوسف" حسب طلب البيان التحذيري. ولم تكن مصادرة القمني علي "شبكة الانترنت" الاولي بالنسبة له, فقد حدث مع صدور كتابه "درب الزمان" ان اثار مجمع البحوث الاسلامية, ووصلت القضية الي اروقة المحاكم- محكمة شمال القاهرة- تحديدا- في منتصف التسعينيات من القرن الماضي. وصدر حكم تاريخي للقاضي سلامة سليم ببراءة القمني وكتابه, واعادته الي السوق مرة اخري. وجاء في حيثيات الحكم ما يلي: " تبين ان تقرير مجمع البحوث الاسلامية انما كتب بدوافع نبيلة قوامها الغيرة علي الدين الاسلامي الحنيف, بيد أن الامر في حدود الرؤي والاجتهادات الشخصية والعلمية, كذلك فإن الكاتب اذ توجه الي تأليف مؤلفه فقد توجه الي ذلك بدوافع نبيلة قوامها الرغبة في البحث العلمي واستجلاء الحقيقة الدينية الخالصة.