وداع القيمة جابر عصفور.. مشروع فكري ونقدي منفتح علي العالم عيد عبد الحليم برحيل د. جابر عصفور فقدت الحياة الثقافية المصرية والعربية أحد أبرز أعلامها في الخمسين عاما الماضي, قيمة وقامة وإنجازا, علي المستوي الفكر والنقدي وصناعة الحراك الثقافي, والجدل الفكري البناء, مع إعطاء مساحات متفردة للتنوير بمستوياته المتعددة. لم تكن رحلة "عصفور" بالرحلة السهلة علي الاطلاق, فمنذ مولده لأسرة بسيطة بمدينة المحلة عام 1944, بدأت ذاكرته تتفتح علي افكار الحرية والوطن والعدالة الاجتماعية, وبدأ وعيه ينمو- رويدا رويدا- حتي اذا بلغ سن الشباب وجد مجموعة من أقرانه – من ابناء المدينة الصناعية التي اشتهرت بصناعة الغزل والنسيج – يلتقون- بصفة دورية في قصر ثقافة المحلة "فانضم اليهم, كانت تلك المجموعة التي عرفت بشلة المحلة تضم عددا من الادباء- كانوا وقتها في مقتبل العمر وفي بداية تحسس طريق الابداع- منهم جارالنبي الحلو وسعيد الكفراوي ومحمد المنسي قنديل ونصر حامد أبو زيد ومحمد فريد أبو سعدة , وكان يأتي إليهم من المنصورة محمد المخزنجي. وقتها كان جابر عصفور قد التحق بكلية الاداب جامعة القاهرة, وكان يأتي اسبوعيا ليحضر الندوة مع اصدقائه, ويحدثهم عن الجامعة و اساتذته د. طه حسين وسهير القلماوي وعبدالعزيز الاهواني, وعن المنتديات الثقافية في العاصمة, مما صنع حافزا لمعظم ابناء "شلة المحلة" بأن يتجهوا الي العاصمة ليصبحوا – فيما بعد- اسماء ابداعية مهمة في القصة والشعر والرواية, ويصبح نصر أبو زيد- الذي كان يعمل وقتها موظفي لاسلكي- طالبا في الجامعة, ثم استاذا للفلسفة, وصاحب رؤية فكرية خاصة, واسما مهما في حركة التجديد الفكري المصري والعربي. في جامعة القاهرة انفتح باب اكثر اتساعا امام الشاب جابر عصفور, خاصة في محاضرات د. طه حسين ود. سهير القلماوي, والتي كا ن يعتز "عصفور" – دائما- بأنها استاذته التي تعلم علي يديها كثيرا من الافكار التقدمية في الفكر والادب والنقد. بعد ذلك كان "عصفور" يري أن الجامعة هي "الترمومتر" للحياة الفكرية, فاذا تقدم البحث العلمي في الجامعة, عاد ذلك بالخير علي المجتمع, اما اذا تراجع البحث العلمي الجاد في الجامعة, انتشرت في المجتمع "ثقافة التخلف", تلك الثقافة التي يقول عنها في "كتاب " نقد ثقافة التخلف". أن ثقافة التخلف هي الثقافة السلبية التي تؤخر المجتمع وتعوقه عن التقدم, وتشيع فيه مبادئ الانانية وعدم الاعتراف بالاخر, والاختلاف او حتي الوجود المغاير, ومن ثم فهي ثقافة تتميز بالتعصب الذي يؤدي الي الارهاب دينيا وغياب الحرية الذي يؤدي الي الاستبداد سياسيا, كما تتميز بالتعصب الاجتماعي الذي يؤدي الي القمع والتمييز اجتماعيا. وذلك فيما يسميه هشام شرابي ب "ثقافة المجتمع البطريركي" واخيرا الي احتكار فئة بعينها لثروة المجتمع المنغلق علي نفسه بما يؤسس للدولة التسلطية, ويبقي عليها في ادواتها الايديولوجية التي تشبع صفات التسلط وتحسنه تحسينا تخيليا في وعي افراد المجتمع, لاقناعهم بضروة بقاء الحال علي ما هو عليه". كانت رحلة"جابر عصفور" الفكرية ثرية في الدفاع عن حرية التفكير, ومحاولة مواصلة مشروع التنوير العربي, والذي فشل في مراحل كثيرة من مراحله التاريخي لاسباب خارجة عنه, واسباب داخلة في بنيته, فجاء كتابه "هوامش علي دفتر التنوير" كاشفا لهذه الابعاد, محللا اسباب الفشل, وداعيا الي النهوض, من خلال رؤية تقدمية ذات ابعاد مستقبلية. من خلال طرح الاسئلة. يقول عصفور: "لاتزال مفردة "المسألة" اكثر الكلمات المفاتيح في فكري النقدي بمعناه العام والخاص, ولا تقتصر المساءلة علي الموضوع المدروس في هذا السياق, بل تشمل الذات الدراسة في الوقت نفسه, فهي مساءلة جدلية, لا تتوقف عن تبادل التأثير والتأثر ما بين الذات العارفة وموضوعها المعرفي, ولذلك فلا ناقد حقيقيا إلا وهو يعي ان عليه مساءلة نفسه في الوقت الذي يضع موضوعه موضع المساءلة, فهذا اول الطريق الي الموضوعية التي ننشهدها في العلوم الانسانية". وفي كتابه"ضد التعصب" نجده يقدم نقدا لاذعا لكل آليات القمع التي تعمل علي إقصاء وتهميش الابداع, مما ينتج عنه حالة من التعصب داخل بنية المجتمع, حيث يقول :"وما يحدث في الحياة الفكرية والابداعية ليس مفصولا عن كل ما يحدث في المجتمع, بل انه يشبهه في تشكله ونواتجه, خصوصا حين يسود التعصب لا التسامح, ويغدو العنف بديلا عن الحوار, وينقلب احترام حق الاختلاف الي شعار بلا مضمون". وكان يري ان حالة التعصب هذه تأتي نتيجة لاسباب سياسية واجتماعية ودينية, تفرضها سيطرة "ثقافة التقليد" التي تعمل علي تقديس القديم, والقياس عليه في كل مجالات الحياة. وقد اشاعت ثقافة التقليد, في تفاعلها مع غيرها من العوامل الاجتماعية والسياسية والفكرية, نوعا من التضييق علي حرية الفنون و الاداب, والحجر المتزايد عليها, وعدم قبول الانواع الجديدة منها, وكان الخلط بين الديني والدنيوي سلاحا فاعلا في أيدي أعداء حرية البشر وحرية الفنون علي السواء". يقول د. عصفور : كانت التيارات الاتباعية المسرفة في التقليد نافرة من الفنون, مستريبة فيها مستهينة بشأنها, متربصة بمبديعها, اما لأن هؤلاء المبدعين اطلقوا العنان لابداعاتهم الجديدة, فابتدعوا ولم يتبعوا, او لأنهم ابرزوا الحضور الاصيل للانسان في فعل اختياره الذي يفرض حضوره علي الوجود, وكان نفور هذه التيارات من الفنون قرين سوء الظن بالانسان, وتصوره لا بوصفه اسمي المخلوفات علي الارض أو بوصفه الكائن الذي استخلفه خالقه علي خلقه, وانما بوصفه الآثم الابدي الذي يحوم حول المعصية كما تحوم الفراشات حول النار".