*عيد عبدالحليم كانت الثقافة ولا تزال أحد حوائط الصد القوية فى مواجهة القوى الظلامية التى تتربص بالأمة، وكان المثقفون بفكرهم التنويرى أشرعة لاجتياز لجة التخلف إلى شواطئ العدل والحرية والقيم الإنسانية الرفيعة، لكن ما بين الحين والآخر يطل ذلك الوجه الظلامى ليصادر الإبداع من خلال منظوره الضيق متذرعا بتأويلات واهية وادعاءات لا تملك من المصداقية شيئا . وقد عمد الرقيب دائما فى مصادرة الأعمال الأدبية والإبداعية والفكرية إلى ثلاثة أسباب أسماها ب "مجاوزة الخط الأحمر " وربطها بالمحرمات الثلاثة على حد تعبيره وهى: "الدين والسياسة والجنس" والرقابة بصفتها أداة للمنع والحجب لا تلجأ فى كثير من الأحيان إلى صيغ تأويلية تبرهن على صدق دعواها، نظرا لأنها عادة ما تأخذ بظواهر الأمور دون تمعن أو إعمال نظر . والرقيب عادة لا يدقق فى العمل الذي يريد مصادرته، بل يتعامل مع النص "بشكل انتقائى" لا يعتمد على رؤية منهجية بحثية كلية تعتمد على بعد منطقي وسوسيولوجى يملك حق تأويل وتفجير البنية المجازية التخيلية لذلك النص. وهنا تولد ما يمكن أن أسميه ب "الرقابة العمياء" التى لا تستطيع أن تميز بين الغث والسمين، ولا بين الإبداع الزائف والإبداع الحقيقي. نصر أبوزيد.. الغربة حتى النهاية هل كان يتوقع عامل اللاسلكى بالمحلة الكبرى أن يصبح صاحب أشهر قضية مصادرة فى القرن العشرين، إنه نصر حامد أبو زيد المواطن المصري البسيط العصامى الذي أخذه طموحه العلمي ليترك وظيفته البسيطة وليكمل تعليمه الجامعى، فيلتحق بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، التي يتخرج فيها بتفوق وهو الأول على دفعته فيعين معيدا بها في أواسط السبعينيات، ثم يلمع اسمه فى الثمانينيات خاصة بعد صدور كتابه "مفهوم النص دراسة فى علوم القرآن" مما جعل الدوريات والمجلات المصرية والعربية تتهافت على نشر مقالاته الفكرية التي راحت تكشف المسكوت عنه فى الخطاب الديني، وهو الأمر الذي جر عليه المتاعب الكثيرة بعد ذلك، نظراً لخوضه في بعض المناطق الشائكة والتي تمثل ما يمكن أن يسمى بحقل ألغام بالنسبة لأي مفكر عضوي . وعندما خلت درجة الأستاذية بقسم اللغة العربية، التي كان يعمل بها أستاذاً مساعداً حتى عام 1992 تقدم بطلب الترقية، وكان عليه أن يتقدم طبقا للوائح الجامعية بعدة بحوث ودراسات تؤهله للحصول عليها، فما كان منه إلا أن تقدم بكتابين هما: "الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية" و "نقد الخطاب الديني" . وقد أحيل طلبه مرفقا بالأبحاث إلى لجنة علمية، مكونة من ثلاثة دكاترة قدم اثنان منهما تقريرهما المؤيد له والمؤكد لحصوله على الدرجة، أما الثالث فقد رفض أن يعطيه الدرجة مشيرا فى تقريره إلى أن "أبو زيد" يطلق العنان لفكره فى الدفاع عن الماركسية ويبرئها من تهمة الإلحاد، فى حين أنه يسوى بين الأزهر والتطرف ويصف علماء الدين بالكهنوت، ويعمد إلى تشويه تاريخ القرآن، والأكثر من ذلك نعت هذا الدكتور ل "أبو زيد" بأن ما يقوله هو قول "سمادير" أي "ما يراه المخمور" إبان سكره البين " وأن ما أتى به جدلية تولد جدلية، وأخطر ما جاء فى هذا القرير هو قول الدكتور المقيم للدرجة " أن ما جاء به أبوزيد كلام أشبه بالإلحاد " وهى عبارة تغمز الباحث فى عقيدته. وللأسف اعتمدت الجامعة التقرير الثالث المشار إليه سابقا، والذى قدمه د عبد الصبور شاهين. ولم تقف القضية عند هذا الحد حيث لم يكتف ذوو الكرامات من شيوخ الجامعة بعدم منح " د . نصر " درجة الأستاذية، بل أوصلوا القضية إلى أروقة المحاكم والتي لم تكن رحيمة أيضا بهذا الباحث الجاد بل أيدت قضية الحسبة التى رفعت ضده وحكم فيها بالتفريق بينه وبين زوجته د . ابتهال يونس، مما جعله يلجأ إلى هولندا. ولم يعد إلى مصر إلا ليدفن في بلدته في محافظة الغربية. مسامير عبدالله النديم عاش "عبد الله النديم" شاعر الثورة العربية ومؤرخها الأول ملاحقا ومطاردا نظرا لآرائه وكتاباته المناهضة للاستعمار الإنجليزي، وقد اتخذ من أدب الطرائف أقنعة لتصل مضامين رسالته إلى ملايين المصريين، وأوضح دليل على ذلك منهجه فى مجلته "التنكيت والتبكيت" والتي أصدرها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر . وظلت كتاباته ذاكرة للوطن، مقروءة على المستويين النخبوي والجماهيري حتى بعد وفاته فى مطلع القرن العشرين، وحافزا للأجيال من أجل البحث عن قيم الأصالة فى بنية المجتمع المصري. لكن العجيب فى الأمر أن يحاول البعض حجب الأفكار التنويرية لواحد ممن شاركوا في صناعة النهضة الحديثة، ففي أكتوبر من عام 1999، صدر قرار من رئيس جامعة القاهرة بتحويل الأستاذ الدكتور عبدالمنعم الجميعى وكيل كلية التربية بالفيوم وأمين عام الجمعية المصرية للدراسات التاريخية إلى مجلس التأديب بالجامعة، بسبب رفض "الجميعى" الاعتذار فى الصحف عن تدريسه لكتاب عبدالله النديم "المسامير"، وقد سبق ذلك منع رئيس الجامعة الكتاب المذكور من تدريسه للطلبة، والذي كان د. الجميعى قد اختاره ليدرس ضمن منهج تاريخ الفكر السياسي المعاصر . نوال السعداوي مصادرات متكررة تعرضت الأديبة الراحلة نوال السعداوي لكثير من المصادرات نتيجة لآرائها الجريئة، ولعل الأكثر غرابة هو مصادرة روايتها "سقوط الإمام" التي صدرت طبعتها منذ أكثر من ثلاثين عاما، فقد تمت مصادرته عام 2006 مما يذكرنا برواية "وليمة لأعشاب البحر" للكاتب السورى حيدر حيدر والتى صدرت طبعتها الأولى عام 1983 وما دار حولها منذ ثلاثة أعوام وكان من ضحاياها فريق عمل كامل بالهيئة العامة لقصور الثقافة وإغلاق حزب سياسى وجريدته، حزب العمل وجريدة الشعب ورغم ذلك كانت تلك المصادرة سبباً فى ذيوع الرواية وانتشارها وطبعها بعد ذلك أكثر من طبعة جديدة . والخطورة هنا ليست فى موقف الأزهر قدر ما تكمن فى موقف الدولة متمثلة فى وزارة العدل التى منحت لعدد من شيوخ مجمع البحوث الإسلامية،صفة الضبطية القضائية،وذلك بالقرار رقم 4392 وقد استند القرار على القانون رقم 102 لسنة 1985 والخاص بتنظيم طبع المصحف الشريف والأحاديث النبوية. ومما لا شك فيه أنه لا توجد أدنى مشكلة فى أن يشرف الأزهر على طبع المصحف والأحاديث النبوية والعمل على حمايتها من أى تحريف بل إن ذلك يعد من صميم عمل المؤسسة الدينية المنوط بها فى الأساس الحفاظ على الدين لكن للأسف فإن قرار وزارة العدل فى حد ذاته قرار ذو بعد زئبقى، فقد بحث مشايخ المجمع، فى جذور القوانين المنظمة للأزهر خاصة القانون رقم 103 لسنة 1961 والخاص بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التى يشملها دور الأزهر فى الرقابة على الكتب والمصنفات الفنية حيث نصت المادة رقم 15 على "أن مجمع البحوث الإسلامية هو الهيئة العليا للبحوث الإسلامية وهو يختص بتجريدها من الفضول والشوائب وآثار التعصب السياسى والمذهبى وتوسيع نطاق العلم بها لكل مستوى وفى كل بيئة، وبيان الرأى فيما يجد من مشكلات مذهبية أو اجتماعية تتعلق بالعقيدة وقد جاء نص المادة رقم 17 من اللائحة التنفيذية من القانون المذكور والصادر بقرار رئيس الجمهورية رقم 250 لسنة 1975 ليؤكد ويحدد دور مجمع البحوث الإسلامية فى تتبع ما ينشر عن الإسلام والتراث من بحوث ودراسات فى الداخل والخارج للانتفاع بما فيها من رأى صحيح أو مواجهتها بالتصحيح والرد . ويتضح من هذه المادة أنه لا يوجد سند قانونى للأزهر فى مراقبة الإبداع الأدبى والفنى فقط كل ما له هو أن يتتبع ما ينشر عن الإسلام والتراث الإسلامى من بحوث ودراسات من أجل الوصول بها إلى درجة من الصفاء فى توجيه الرأى نحو فكر دينى صحيح دون أدنى مصادرة لأنها ليست داخلة فى اختصاصاته بن لادن واللغة العربية فى أسبوع واحد من شهر يوليو 2004 عادت المصادرة بوجهها الكريه إلى الساحة الفكرية والثقافية المصرية مرة أخرى، فقد وجهت الاتهامات إلى كتابين بالتجرؤ على الدين وهما: " شكرا " بن لادن " للمفكر د . سيد القمنى والصادر عن دار المحروسة، وكتاب "لتحيا اللغة العربية وليسقط سيبويه" للكاتب شريف الشوباشى وكيل أول وزارة الثقافة للعلاقات الخارجية والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وإذا كان الشوباشى لم يقصد فى كتابه أن يمس أى مقدس دينى فإنه قد طرح فكرة تجديد اللغة العربية والخروج بها من تقليدية الرؤية لتواكب متطلبات العصر، وهى دعوة ليست بالجديدة فقد طرحها العالم اللغوى الكبير الراحل شوقى ضيف منذ أكثر من خمسين عاما فى كتابه القيم "تجديد النحو" ومن قبله بنحو قرن من الزمان جاء كتاب رفاعة رافع الطهطاوى "المرشد الأمين فى تعليم البنات والبنين" كبداية للتجديد التربوى من خلال رؤية تنويرية أمسك بتلابيبها مجموعة من التنويريين بعد ذلك أمثال د. حسين المرصفى الذى ألف كتاباً مهما يعد مرجعاً فى هذا الإطار وهو "الوسيلة الأدبية إلى العلوم العربية"، ثم جاء الإمام محمد عبده بمشروعه لإصلاح التعليم فى الأزهر والذى بدأه بتدريس كتاب "نهج البلاغة" للإمام على بن أبى طالب والذى شرح حواشيه الشريف الرضى، وربما أزمة الشوباشى قد جاءت فى الأساس من وجهة نظرى من كونه نظر إلى اللغة العربية نظرة الدارس للغات الأخرى، بمعنى أخر أنه أراد التجديد من الخارج لا من الداخل بعد أن رصد مجموعة من الاحصائيات حول وضعية اللغة العربية بالنسبة للغات المعترف بها عالميا، وأنها تأتى فى ذيل القائمة اللغوية، وهو أمر ليس بمستغرب، فالتقرير الأخير والصادر فى عام 2005 عن هيئة اليونسكو يشير إلى تردى حقيقى فى الجامعات المصرية، فالتقرير الذى ضم أهم " 500 " جامعة فى العالم لم يحو بين طياته اسما واحدا لجامعة مصرية أو عربية، وهو مؤشر خطر، يدل على تراجع واضح على اعتبار أن أول جامعة فى الشرق الأوسط كانت فى مصر وهى جامعة القاهرة . بحب السيما جراءة فنية. ربما لم يحدث عمل فنى سواء كان سينمائياً أو تلفزيونياً ضجة مثلما حدث مع فيلم "بحب السيما" لمؤلفه هانى فوزى ومخرجه أسامة فوزى وبطولة ليلى علوى ومحمود حميدة، نظرا لدخوله إلى مناطق مسكوت عنها فى المجتمع، حيث عالج التزمت الدينى الموجود عند بعض الأسر المسيحية، التى دخلت عالم السينما كبطل رئيسى فى هذا الفيلم الجرئ، الذى أعاد للسينما المصرية الكثير من بريقها المفقود من سنوات بعيدة، حيث انتزع ورقة التوت الشائكة حول شخصيات اجتماعية تعيش بيننا، لم يقدمها الفن السابع من قبل بحجة الحفاظ على الوحدة الوطنية، وهى حجة واهية نظرا لتماسك أبناء المجتمع المصرى مسلمين ومسيحيين ولكل حقه فى التعبير الفنى والحياة كشرائح اجتماعية متساوية، وربما أولى حسنات هذا العمل الفنى المغاير أنه لمس الجرح الكامن وقال بصراحة شديدة إنه "لاتابو" فى تقديم العلاقات الإنسانية، فقدم الشخصيات بإيجابياتها وسلبياتها، من خلال أسرة مسيحية مكونة من أب أرثوذكسى متزمت، وأم بروتستانتيه إنجيلية تظهر للوهلة الأولى أكثر تسامحا وتحررا، وابن صغير يعشق السينما، طارحا سياقات اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية يشترك فيها مسلمون ومسيحيون. وربما هذا ما دعا بعض الأخوة الأقباط إلى التظاهر على حد تعبير جريدة الرأى العام الكويتية بتاريخ 9 / 7 / 2004 لأول مرة فى تاريخ أى عمل فنى داخل الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، حيث تجمع أكثر من خمسمائة شخص قبل أن يلقى "البابا شنودة الثالث " بطريرك الأسكندرية والكرازة المرقسية موعظة الأربعاء، وردد المتظاهرون هتافات ضد الفيلم ومخرجه ومؤلفه، وكادت تحدث كارثة لولا سيطرة رجال الأمن على الموقف .