مما لا شك فيه أن روسيا وبعد لقاء يونيو بين الرئيس بوتين وبايدن تنفست الصعداء، لأنه بعد هذا اللقاء تقدم الرئيس الأمريكى إلى المستشارة الألمانية ميركل بهدية مهمة وهو أنه أوقف العقوبات التى كانت الولاياتالمتحدة قد فرضتها على إنشاء خط الأنابيب "السيل الشمالى 2″، ومن ثم هو ضرب عصفورين بحجر واحد، لقد كان من الصعب إعاقة استكمال بناء الخط ومن ثم فإن الولاياتالمتحدة كانت ستخسر ماء وجهها إذا تم البناء وهى معترضة، ومن ناحية أخرى حاول إصلاح العلاقات مع أوروبا والتى تدهورت فى عصر سلفه ترمب بدرجة كبيرة. من جانبها سعت المستشارة الألمانية لأن تمسك بالعصا من المنتصف، فهى مستمرة فى "السيل الشمالى 2" لكن ليس على حساب الحليفة الجديدة للناتو ولأوروبا، أوكرانيا، التى فى حال تشغيل خط أنابيب "السيل الشمالى 2" ستفقد الأنابيب المارة عبر الأراضى الأوكرانية أهميتها، وأوكرانيا نفسها ستخسر أهميتها الجيوسياسية، هذا بخلاف حوالى 2 3 مليار دولار ثمن عبور الغاز عبر أراضيها سنوياً، وكانت كل عام تعقد مفاوضات مع روسيا على زيادة سعر المرور وكميات الغاز المار، مما أصاب روسيا بالملل بسبب هوائية القادة الأوكران فقرروا التخلص من أوكرانيا كحلقة وصل فى عملية تصدير الغاز نهائياً فأنشأوا "السيل الجنوبى" عبر الأراضى التركية و"السيل الشمالى 2″ عبر بحر البلطيق وإلى ألمانيا وبعد ذلك إلى اوروبا. تفاوض على أسعار الغاز الأزمة السنوية بين الأوروبيين وروسيا فى مثل هذا الوقت من كل عام كانت التفاوض على أسعار الغاز خلال العام والكميات التى تستهلكها كل دولة، وكانت الدول الأوروبية تصر على توقيع العقود لمدة عام وترفض توقيع عقود طويلة الأجل تحسباً لتغير الأسعار بالانخفاض، وكانت روسيا تقبل بهذا ويقدم الأوروبيون أيضاً تنازلات لأن الغاز الروسى هو الأرخص بسبب ظروف النقل عبر الأنابيب من ناحية، كما أن أوروبا أكبر زبون (تستورد 40% من احتياجاتها من روسيا) والبنية التحتية مهيأة وبعضها من زمن الاتحاد السوفيتى مثل الخطوط عبر بيلاروسياوأوكرانيا. من الدول التى وقعت عقودا طويلة الأجل مع روسيا كانت صربيا وكان ذلك بسعر 240 دولارا للألف متر مكعب. ووقعت المجر مؤخراً عقداً طويل الأجل مع روسيا لشراء غاز سيمر عبر السيل الجنوبى، ورغم طول المسافة مقارنة بتعاقدت عبر الخط الأوكرانى، ومن ثم الزيادة فى سعر الترانزيت، غير انها فضلت ذلك رغم احتجاج أوكرانيا. الآن أسعار الغاز قفزت قفزة لم يكن أحد يتوقعها واقتربت من 2000 دولار للألف متر مكعب، لم تحدث مثل هذه القفزة إلا فى مارس عام 2018، عندما حدثت طفرة فى أسعار الغاز على خلفية حالة البرد غير الطبيعية التى اجتازت الدول الأوروبية حينها. الأسعار ارتفعت بشكل حاد فى البورصات العالمية وكانت الأسعار ترتفع بمعدلات مخيفة أصابت أوروبا بالصقيع قبل حلول الشتاء، وإذا كانت الأسعار فى شهر أغسطس قد كسرت حاجز 600 دولار للألف متر مكعب، فإنها فى سبتمبر وصلت 700 دولار للألف متر مكعب. النفط والغاز ما سبب ارتفاع أسعار الغاز بالمعدلات التى تفوق فيها على النفط، حيث عادة ما كان الغاز يتبع النفط بل ينتظر 6 أشهر بعد ارتفاع أسعار النفط، يقول الخبراء أن أسباب ارتفاع الأسعار ترجع إلى أن خبراء الأرصاد يتوقعون شتاءً قارساً شديد البرودة هذا العام، كما أن خزانات الغاز الأوروبية تحت الأرض استنزفت والاحتياطى الموجود فيها محل شك. والبعض يتحدث عن حادث كما قال بعض الخبراء فى مصنع للغاز تابع لشركة "غاز بروم" فى منطقة أورينجوى أحد أكبر مناطق انتاج الغاز الروسى، لكن أحد الأسباب الهامة هو محاولة الدول الأوروبية خلق معايير جديدة للبيئة ومنها الاستغناء التدريجى عن الفحم والطاقة النووية لصالح الطاقة المتجددة التى لم تكتمل بنيتها التحتية بعد، لكن الشتاء وخلو مكامن تخزين الغاز باغتهم قبل استكمال البنية التحتية للطاقة الجديدة. لكن توجد أسباب أخرى لارتفاع الأسعار فمثلاً روسيا تريد تحقيق ما كانت تصبو إليه من بناء خطوط الأنابيب سواء فى الشمال أو الجنوب وربما أرادت أن توقف الضغط عليها لاستخدام الخط الأوكرانى فى تصدير جزء من الغاز لاوروبا، ويبدو أنها أرادت أن تحصل على تصاريح التصدير عبر "السيل الشمالى 2″ البعض قدر وقت الحصول على التصاريح بأربعة أشهر، لكن الشتاء سيجبر الأوروبيين على الخضوع ومنح التصاريح بأسرع ما يمكن، بالإضافة إلى أن الرئيس بوتين قالها بصريح العبارة " الخط الأوكرانى لن يتحمل الضغط واحتياجات أوروبا من الغاز لأنه يحتاج إلى أعمال صيانة لم تجر فيه منذ زمن بعيد". فهل تعجل أوروبا بعيداً عن البيروقراطية وعن التحالف مع أوكرانيا ومراعاة مصالحها بالتصريح بعمل خط "السيل الشمالى 2" بكامل طاقته أو حتى بنسبة 50% منها؟! توازن أوروبي تحاول روسيا فى الوقت الراهن أن تخلق نوعا من التوازن فى أسعار الغاز الطبيعى فى أوروبا عن طريق تشغيل خط "السيل الشمالى 2" كما صرح بذلك السكرتير الصحفى للرئيس الروسى دميترى بسكوف، أما الرئيس الروسى نفسه فقد أشار إلى أن أسعار الغاز ارتفعت بالنسبة للدول التى رفضت توقيع اتفاقيات طويلة الأجل مع روسيا. لا شك أن أسعار الغاز الحالية هى فى صالح شركة غاز بروم الروسية، والدول الأوروبية تتجرع الآن الآثار السلبية لرفضها توقيع عقود طويلة الأجل، وتوقع البعض أن تكون الستة أشهر القادمة هى الأفضل لغاز بروم الروسية لأن الأسعار ستكون مرتفعة بما يكفى أو على الأقل لن تصل فى الإنخفاض إلى ما كانت عليه قبل أزمة الأسعار الحالية، الأسعار خلال الفترة القليلة القادمة على الأرجح لن تقل عن 400 دولار فى المتوسط للألف متر مكعب فى حين كانت فى السابق حوالى 120 دولارا، مما يعنى زيادة دخل غاز بروم بحوالى 35 40 مليار. لكن نظراً لأن الأسعار الحالية للغاز فى أوروبا ليست مرتبطة تماماً بقواعد محددة، فإنها من الصعب أن تثبت فى مستواها الحالى، ويتوقع البعض هبوطا حادا ومفاجئا فى الأسعار، ومن وجهة نظر البعض إن بدء عمل "السيل الشمالى 2" من الممكن أن يؤدى لانخفاض الأسعار وهذا لن يحدث إلا فى شهر يناير على الأرجح. لكن حلول شتاء قاس على أوروبا من الممكن أن يبقى على الأسعار الحالية أو قد تنخفض لكن ليس بدرجة كبيرة. أمريكا والغاز هنا من المحتمل أن تلعب الولاياتالمتحدة دورا رئيسيا فى خفض الأسعار، أو تغزو أوروبا بالغاز الأمريكى وتنهى السيطرة الروسية على سوق الغاز فيها، حيث أن ارتفاع الأسعار قد يجعل تصدير الغاز الأمريكى مربحا، ومنافسا للغاز الروسى، وقد تتخذ بعض دول أوروبا القرار الصعب بشراء غاز أمريكى مرتفع الثمن عن أن تضع أصبعها تحت ضرس الدب الروسى الذى كشر عن أنيابه فجعل أوروبا تشعر بالبرد قبل حلول الشتاء. بل أن الوضع الحالى قد أيقظ آمال بعض منتجى الغاز الآخرين سواء فى شرق المتوسط أو إيران وغيرها من الدول المنتجة لأن تستفيد بدرجة أكبر من الغاز المنتج مع النهم الأوروبى لسد العجز وحلول الشتاء. سيكون على روسيا ممارسة الضغط على أوروبا بحرص وتوازن حتى لا تخرج الأمور عن السيطرة فى سوق الغاز الأوروبى، ولا أعتقد أن الأوروبيين سيفوتون حالة الرعب التى عاشوها عشية حلول فصل الشتاء وسيحاولون الإسراع بإيجاد مصادر بديلة والعمل على استغلال الطاقة المتجددة التى تسعى أوروبا إليها على وجه السرعة.