بعد محادثة تليفونية بين الرئيسين الروسى فلاديمير بوتين والأمريكى جو بايدن، اتفق الرئيسان على تمديد اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية الهجومية، الموقعة بين البلدين فى العاشر من إبريل عام 2010 والتى ينتهى العمل بها فى الخامس من فبراير الجارى. يذكر أن البرلمان الروسى وافق على تمديد الاتفاقية فى السابع والعشرين من يناير الماضى، ثم صادق عليه الرئيس بوتين فى التاسع والعشرين من نفس الشهر، وعملياً بمجرد توقيع الرئيس الروسى عليها مع محادثة تليفونية مع نظيره الأمريكى ناقشا فيها عددا من القضايا العالقة بين البلدين، وكان قد ثار لغط كثير حول هذه المحادثة التليفونية فكل طرف فسرها على طريقته، لكن ما يعنينا هنا هو الاتفاق الذى تم تمديده لمدة خمس سنوات قادمة وسيعمل به من الخامس من الشهر الجارى. وينص الاتفاق على تثبيت عدد الرءوس النووية الاستراتيجية عند 1550 عند كل دولة مع 700 قاعدة إطلاق لكل منهما. كانت روسيا فى خريف العام المنصرم قد اقترحت على إدارة الرئيس دونالد ترامب تمديد الاتفاق، إلا أن الاقتراح الروسى لم يجد استجابة عند الإدارة الإمريكية السابقة، أو كانت ردها ذا طبيعة خاصة، فقد كان لترامب مطالب أخذت شكل الإنذار لروسيا وهو ما لم يقبله الكرملين، فعلى سبيل المثال طلبت إدارة ترامب من روسيا أن تدخل تدعو الصين للانضمام للاتفاقية، التى ترفض الانضمام لأى اتفاقية أو مفاوضات للحد من أى نوع من الأسلحة سواء استراتيجية أو تقليدية، بالإضافة لهذا كانت واشنطن ترغب فى ضم الأسلحة الاستراتيجية مع غير الاستراتيجية، رغم أن الولاياتالمتحدة تدرك أن هذه الأنواع من الأسلحة درجاتها مختلفة، وإذا كانت الأسلحة الاستراتيجية معروفة لكلا الطرفين، من خلال بعثات التفتيش والمراقبة وتبادل المعلومات بين الطرفين، فإن الأسلحة غير الاستراتيجية أو التكتيكية لا توجد أى معلومات عنها ولم يكن هناك معلومات من قبل، والحصول على هذه المعلومات من الطرفين كل عن الآخر سيستغرق شهورا طويلة. من أسباب عدم رغبة إدارة ترامب تمديد اتفاق الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية (ستارت)، فهو يكمن فى أن واشنطن وإدارة ترمب كان تعتقد بأن الولاياتالمتحدة لا يمكنها أن تأخذ على نفسها أى التزامات دولية، ربما من هذا المنطلق حرصت الولاياتالمتحدة على الخروج من عدد من الاتفاقيات الدولية بداية من اتفاق المناخ فى باريس، واتفاق التخلص من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، وأخيراً الاتفاق النووى مع إيران. وكما يقول بعض المراقبين أن قرار ترامب قد تأثر بأن الاتفاقية (ستارت 3) تم التوقيع فى عهد الرئيس باراك أوباما وكل ما هو مرتبط بالديموقراطى أوباما بالنسبة لترامب الجمهورى غير مقبول، ومن ثم عندما وصل بايدن، الذى كان نائباً لأوباما للسلطة، وجد فى الاتفاق فائدة للولايات المتحدة بالدرجة الأولى كما يقول بعض المحللين الأمريكيين. فى واقع الأمر يعتبر الاتفاق مفيدا للجانبين الروسى والأمريكى، فهو بالنسبة للولايات المتحدة سيكون أداة للسيطرة على تحديث وتطوير أسلحة الردع النووية الاستراتيجية الروسية، وفقاً للاتفاق يجب على روسيا إبلاغ واشنطن عن إنتاج أى صواريخ استراتيجية حاملة للرؤوس النووية، وإعطاء الولاياتالمتحدة فرصة للتعرف عليها قبل وضعها فى المواقع العسكرية للخدمة. استقبال المفتشين الأمريكيين الذين يمكنهم السفر لروسيا عدة مرات فى العام وزيارة أماكن تمركز قواعد إطلاق الصواريخ وكذلك قواعد الغواصات والسفن ومطارات الطائرات الاستراتيجية، حدثت عملية التفتيش هذه حوالى 18 مرة على مدى سريان الاتفاقية التى انتهت يوم 5 فبراير الجارى. قبل أى تجربة صاروخية يتم إخطار واشنطن، عن نوع الصاروخ ومن أى مكان سينطلق وأين سيقع، علاوة على ذلك يجب على موسكو أن تقدم خمس مرات فى العام معلومات عن طيران تلك الصواريخ. باختصار يجب أن تكون للشريك فى الاتفاق منفتح تماما فيما يتعلق بموضوع الاتفاق. بالمناسبة عندما قامت روسيا بإدخال الصاروخ الجديد الرهيب "افانجارد" للخدمة فى ديسمبر عام 2019 فى منطقة فى قرية ياسنى التابعة لمنطقة أورينبورج، قامت بدعوة المفتشين الأمريكيين. من المعروف أن هذا النوع من الصواريخ يطير بسرعة تبلغ 27 ماخ، أى 27 مرة سرعة الصوت، وهنا دعوة المفتشين الأمريكيين لم يكن الهدف حسن النية بل التزام بتطبيق الاتفاق. ومن ثم لو لم يكن الاتفاق ما كان للأمريكيين فرصة للتعرف على الصواريخ الاستراتيجية الثقيلة "سرمات" التى تجرى التجارب عليها والتى يجب أن تحل محل أكبر صواريخ استراتيجية "فويفود" أو "الشيطان" كما يطلقون عليها فى الغرب. وما ينطبق على روسيا من حيث التفتيش والسيطرة، أيضاً الولاياتالمتحدة يجب أن تفتح مواقعها أمام الخبراء والمفتشين الروس، وهذا كما يقول الخبراء هام للغاية بالنسبة لروسيا، لأنه لا يحد من تطوير وتحديث قوة الردع الروسية، بل يمكنها من إنتاح صواريخ جديدة مثل "أفانجارد" و"سرمات" الذى يبلغ مداه 17 ألف كم أو "أفانجارد" الذى يصل لهدفه بصرف النظر عن أى منظومة دفاع صاروخى، وكما قال الرئيس بوتين تحييد هذه الصواريخ أصبح ممكناً بفضل اتفاقية "ستارت 3" للحد من الأسلحة الاستراتيجية الهجومية. أهمية تمديد الاتفاق تكمن فى أنه بالإضافة إلى درء المخاطر عن البشرية والعالم، فهو يحمى روسيا من الدخول فى سباق تسلح باهظ التكلفة، ويكفى القول بأن روسيا خصصت لتصنيع أسلحة ومعدات عسكرية جديدة فى الفترة من 2020 إلى 2027 حوالى 20 تريليون روبل، وكما يقول وزير الدفاع الروسى لن نحتاج إلى مصروفات إضافية إذا كنا سنعرف وفقاً للاتفاق ماذا يدور فى الولاياتالمتحدة. والسؤال الأهم الآن هل يسهم تمديد الاتفاقية فى تطبيع العلاقات بين موسكووواشنطن؟ وهل من الممكن أن يدب الدفء فى أوصال العلاقات المتدهورة بين البلدين منذ وصول ترامب للسلطة؟ من الصعب الإجابة على هذه الأسئلة لأن الملفات العالقة كثيرة وهى استراتيجية بالنسبة لكلتا الدولتين، لكن تمديد الاتفاق لمدة خمس سنوات سيتيح للطرفين فرصة للنقاش حول السيطرة على التسلح سواء الاستراتيجى أو التكتيكى النووى وغير النووى وإجراء مباحثات حول الاستقرار الاستراتيجى وقد يطال الأمر الحد من التسلح، ومحاولة إدخال الصين لمثل هذه المفاوضات، وقد لا يقتصر الأمر على ذلك بل هناك بعض دول الناتو مثل فرنسا وبريطانيا قد تنجذب لمثل هذا الاتفاق. ومن غير المستبعد تنظيم لقاء بين الدول الخمس دائمى العضوية فى مجلس الأمن على قاعدة اتفاق بين روسياوالولاياتالمتحدة. لكن بعض المحللين يعتقد بأن حدوث تقارب بين الولاياتالمتحدةوروسيا بعد تمديد الاتفاق يعتبر أمرا مستبعدا ويتسم بحسن النوايا والأسباب كثيرة أولها أنه لا يوجد من يستطيع إجبار واشنطنوموسكو على التخلى عن التنافس الجيوسياسى فى العالم، كما هو بين واشنطن وبكين. روسيا مثل الصين هى إحدى الدول العظمى فى عالم اليوم ومن الصعب جعلها تستسلم لدور الدولة الثانية بصفة مستمرة، حيث الولاياتالمتحدة تحتل المرتبة الأولى فى العالم، على الأقل يمنحها هذه المرتبة حلفاءها فى الناتو وفى الاتحاد الأوروبى، الذين فقدوا استقلالهم مسلّمين كل أمورهم لواشنطن، روسيا لا تستطيع لعب دور كهذا، فهذا يعتبر فقدان روسيا لذاتها كدولة. كما حدث فى بداية التسعينيات عندما انهار الاتحاد السوفيتى. فى كل الأحوال هناك أمور كثيرة عالقة بين البلدين وتطبيع العلاقات يحتاج إلى الكثير من التنازلات من كل طرف للآخر، والملفات العالقة كثيرة، وواشنطن أثارت قضايا الهجمات السيبرانية وإدعاء بأن روسيا عرضت دفع أموال لحركة طالبان لقتل الجنود الأمريكيين وغيرها رغم أن روسيا تخشى وصول طالبان للسلطة فى كابل باعتبارها حركة متطرفة وكانت تدعم الزعيم الأفغانى الراحل أحمد شاه مسعود باعتباره شخصية معتدلة. يجب التحقق اولاً من هذه الاتهامات، والملف الأوكرانى والسورى سيكون لهم نصيب ناهيك عن الإيرانى والكورى الشمالى وغيرها من الأمور بل حتى الملف الليبي سيكون محل حديث فى المستقبل القريب، وممكن القول إن تمديد الاتفاق جعل الدولتين فقط تفتحان باب الحديث بينهما، لكن الأمر يحتاج لمواءمات كثيرة.